كشفت التطورات المتسارعة المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني عن حقيقة راسخة: الأزمة الراهنة ليست مجرد مسألة فنية قابلة للحل عبر الوسائل الدبلوماسية التقليدية، بل قضية سياسية-أمنية عميقة الجذور في بنية السلطة الحاكمة في طهران. فعلى مدى عقدين من المفاوضات الشاقة والاتفاقيات المتكررة، أثبت النظام الإيراني بقيادة خامنئي أنه لم يكن جادًا في التخلي عن طموحاته النووية، بل استغل كل تسوية لكسب الوقت وتعزيز قدراته. هذا المسار المضلل أفضى إلى قناعة متنامية بأن تفعيل “آلية الزناد” (سناب باك) وإعادة فرض قرارات مجلس الأمن الدولي، رغم تأخره، أصبح ضرورة حتمية لوقف التصعيد المقلق.
لقد وصل طريق الدبلوماسية مع طهران إلى نهايته، إذ لم تُسفر سياسة الاسترضاء إلا عن إعادة إنتاج دائرة مفرغة من التنازلات الغربية مقابل تقدم نووي إيراني متواصل. فاللقاءات الدبلوماسية غير المثمرة، كتلك التي جمعت وزراء الخارجية الأوروبيين بنظيرهم الإيراني، أثبتت أن النظام لا يملك نية حقيقية للتخلي عن مشروعه النووي. تجارب الماضي، بدءًا من اتفاق جنيف عام 2013 وصولاً إلى اتفاق 2015، أظهرت أن كل تنازل غربي لم يزد النظام إلا اقترابًا من هدفه النهائي: امتلاك القدرة النووية العسكرية. هذه السياسة، التي رُوّج لها باعتبارها وسيلة لتجنب الصراع، لم تحقق سوى تمهيد الطريق لتوترات أكبر. وكما حذرت المقاومة الإيرانية مرارًا، فإن التغاضي عن انتهاكات النظام لم يؤدِ إلا إلى تفاقم الأزمة بدل احتوائها.
إن كبح جماح البرنامج النووي الإيراني يتطلب شروطًا واضحة وحازمة لا تقبل التأويل، في مقدمتها الوقف الكامل لتخصيب اليورانيوم، وإغلاق المواقع الحساسة مثل منشأة أراك للمياه الثقيلة، والالتزام بالبروتوكول الإضافي الذي يضمن للوكالة الدولية للطاقة الذرية وصولًا غير مقيد إلى كافة المواقع والخبراء النوويين. إن تجاهل هذه الشروط من قبل القوى العالمية مكّن النظام من تعزيز بنيته التحتية النووية، خصوصًا بعد أن أتاح له الاتفاق النووي الاستفادة اقتصاديًا من رفع العقوبات. والنتيجة المباشرة لهذا التراخي هي ما يعترف به الغرب اليوم صراحة من امتلاك إيران “مخزونًا من اليورانيوم يتجاوز الحد المسموح به بتسع مرات”، وهو ما يؤكد أن الحل الجدي يكمن في التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن وفرض رقابة صارمة باعتبارها الضمان الوحيد لوقف مشروع صنع القنبلة.
القرار الأوروبي الأخير ببدء عملية “سناب باك” يمثل تحولاً ملموسًا نحو مقاربة أكثر واقعية مع طهران. هذا القرار، الذي يصفه خبراء النظام الإيراني بأنه تهديد خطير لـ”البنية الاجتماعية والسياسية” للنظام، سيعيد فرض العقوبات الدولية ويدفعه إلى عزلة شاملة، ليصبح ـ كما وصفه أحد أعضاء مجمع تشخيص مصلحة النظام ـ “طاعونًا” يخشاه الجميع. هذه الضغوط ليست اقتصادية فحسب، بل تحمل أيضًا أبعادًا سياسية قادرة على زعزعة التماسك الهش داخل بنية السلطة، ما يجعل “آلية الزناد” أداة فعالة لنزع الشرعية عن النظام على المستوى الدولي. كما أن الأبعاد الإنسانية والإقليمية للقضية لا يمكن إغفالها، فالأموال التي أُفرج عنها بموجب الاتفاق النووي لم تُستخدم لتحسين حياة الشعب، بل لتمويل الحرس الثوري ومشاريعه التوسعية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ما يربط الملف النووي بالقمع الداخلي وتصدير الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان.
مع تفعيل “آلية الزناد”، يقف المجتمع الدولي أمام اختبار تاريخي جديد: هل ستحل الحزمية محل سياسة الاسترضاء؟ فالحل الحقيقي لا يكمن في الحرب ولا في استمرار النهج السابق، بل في تغيير النظام على يد الشعب الإيراني والمقاومة المنظمة. هذا النهج الشامل لا يعالج الأزمة النووية فحسب، بل يمتد إلى الأزمات الأعمق المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان وتصدير عدم الاستقرار إلى المنطقة. لقد أدى التأخير في تبني سياسات حازمة إلى تكاليف باهظة على الشعب الإيراني والمجتمع الدولي معًا. ومع ذلك، فإن تفعيل “آلية الزناد”، رغم تأخره، يمكن أن يشكل نقطة بداية لتغيير المعادلة، تغيير لن يكتمل إلا بربط الضغط الدولي بإرادة الشعب الإيراني الحرة.
في هذا السياق، جاءت التظاهرات الكبرى التي شهدتها بروكسل في السادس من سبتمبر، والتي جمعت الآلاف من الإيرانيين ومؤيديهم للمطالبة بتغيير حقيقي في إيران، كصرخة مدوية تؤكد أن إرادة الشعب هي القوة المحركة للتغيير، وأن الضغط الدولي حين يقترن بهذه الإرادة يمكن أن يمهد الطريق نحو مستقبل أكثر استقرارًا للمنطقة والعالم.