كل الموظفين المختصين الموالين للأنظمة المستبدة ومن كل نوع حفظوا جيداً مصطلح “الفوضى الخلاقة” الذي رَوَّج له بعض المسؤولين والكتاب الأمريكيين منذ أكثر من عقدين.
الذين لم يفهموا المصطلح وتفاصيله من الذين شُحطوا شحطاً إلى الثقافة خصصت أجهزة المخابرات وأجهزة الحزب الحاكم ندوات ودورات تثقيفية خاصة لشرح المصطلح، وتأكيد أن المصطلح وتفاصيله هو عبارة عن مؤامرة كونية ضد الحكام الخالدين.
هذه الدورات شملت رجال الدين الحكوميين، والكهنة الموالين، الذين تعبوا وأتعبوا حتى فهموا الملخّص المطلوب؛ وهو: “يجب أن يبقى الحاكم ويدوم ولو كان مستبداً مُفسداً يبتلع البلاد هو وزبانيته؛ لأن البديل الفوضى الخلاقة التي تروّج لها الإمبريالية الأمريكية المعولمة، والصهيونية العالمية لصالح العدو الصهيوني”.
استمرّ الموالون من كل نوع في كلامهم وخطبهم وكتاباتهم، وفي لقاءاتهم الإعلامية والصحفية يصبغون ويدهنون ويرشون نفس الطلاء والصبغة، المكتوب على أغلفة زجاجاتها التي توزّع عليهم: “الفوضى الخلاقة”. ولم يعلموا أن هذه العلامة التجارية قد سُحبت من الأسواق منذ أكثر من عشر سنوات.
سُحب المصطلح ومُنع تداوله، وسُحب ما بقي منه في الأسواق؛ لأن إسرائيل اعترضت وسلّطت كل مجموعات الضغط لديها ليُسحب ويُتلف ويُنسى.
فوضى خلاقة؟ فوضى في محيط إسرائيل؟ فوضى ليدخل كل من هبَّ ودبَّ وشبَّ وطبَّ ونبَّ إلى مناطق التماس مع إسرائيل؟ هذه فوضى خنَّاقة وليست خلّاقة لإسرائيل.
لذا، فقد اشتغلت إسرائيل بجدّ وكدّ، وعبر كل “لوبياتها، لإرجاع الاستبداد إلى مصر بعد نجاح ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وبذلت أضعاف ذلك لحماية الاستبداد في سوريا؛ بالضغط على الإدارات الأمريكية والأوروبية، وعلى الكرملين، للإبقاء على بشار الأسد.
بالتجربة والخبرة والتواصل، ثبت لإسرائيل أن نظام بشار الأسد هو الضمانة الأكيدة لأمن إسرائيل، وما عداه لا يمكن الركون إليه ولا الوثوق به، مهما قال المطمئنون وأصدر المعنيّون وزار المعارضون المتذاكون.
وإلى أن تعود سلطة بشار الأسد، أو لكي تعود سلطة بشار الأسد إلى كل نقاط التماس مع إسرائيل، كان لا بد من المنطقة الآمنة. هناك في أقصى جنوب غرب سوريا.
خلال ساعتين، في لقاء بوتين وترامب، تمّت الموافقة المركزية الرئيسية على المنطقة الآمنة، وفُرض ما تريده إسرائيل؛ اتفاقية منطقة آمنة يتم البدء بوقف إطلاق النار “المحسوب” فيها خلال 48 ساعة.
وقف إطلاق النار كما تبيّن بعد ساعات من بدئه أنه لا يشمل المناطق التي فيها أكثر من 25 فصيلاً شاركوا في عمليات “الموت ولا المذّلة”، وفي غرفة عمليات “البنيان المرصوص”، واستطاعوا أن يتقدّموا ويصدّوا الروس والإيرانيين والمليشيات وبقايا النظام، على مدى ستة شهور كاملة.
إسرائيل طلبت مراراً من فلاديمير بوتين أن يوافق على المنطقة الآمنة. والحديث عن هذه المنطقة على العلن تمَّ منذ أكثر من خمسة شهور، وتسرّبت أخبار اللقاءات الروسية الأمريكية الهامة التي بحثت كل شيء، ولم يكن للروس من اعتراض إلا أن يأخذوا الوقت والفرصة ليحققوا حسماً عسكرياً في درعا من جهة حي المنشية الاستراتيجي، والمخيم من جهة درعا البلد. وقد أعطت أمريكا الفرصة كاملة للروس وللنظام ولإيران لإنجاز ذلك.
تم استخدام كل شيء مع عشرات الهجمات البرية، وانتهت بفشل صارخ، بل انتهت بتقدّم آخر جديد للفصائل في الجبهة الغربية؛ حين دخلت الفصائل مدينة البعث قرب القنيطرة.
كان الجميع يريد أن يتخلّص من هذه الفصائل، وأن يخرجها من المناطق التي توسّعت فيها، ولكن المحاولات طالت وتكررت وفشلت، ونفد صبر إسرائيل، فضغطت للإعلان عن اتفاقية منطقتها الآمنة، وربما قالت: “يمكنكم أن تستمروا في المحاولات بعد الإعلان والتطبيق”.
إسرائيل، وعبر الإدارة الأمريكية والأردن، سيكون لها ما تريد في المنطقة الآمنة. لقد ضغطت إسرائيل لتحصل الأردن على 1.6 مليار دولار كمساعدات عسكرية أمريكية عام 2016، وربما يصل الرقم إلى مليارين هذا العام، رغم أن إسرائيل مشهورة باعتراضاتها المتكرّرة على أي صفقة سلاح أو معونة عسكرية لدول الطوق من حولها. وهذه المساعدة العسكرية ليس لها علاقة بميزانية غرفة “الموك”.
إسرائيل سيكون لها وجود مباشر في المنطقة الآمنة عبر العسكريين الذين سيدخلون للفصل والمراقبة، وسيكون منهم بلا شك إسرائيليون بجنسيات أمريكية أو غيرها.
إسرائيل عن طريق الأردن وأمريكا، وعبر غرفة “الموك”، ستحاول تجنيد أكبر عدد ممكن من القبائل والفصائل، ثم تسليحها وتحريضها ضد الفصائل التي أصرّت على الصمود والمقاومة وعارضت “الموك”، رغم الضيق الذي هي فيه في كل جانب. وسيشعلون نار الحرب لإرغام الفصائل “المتمرّدة” على الخروج من منطقة إسرائيل الآمنة. قد تسعى إسرائيل مع حلفائها إلى توحيد الفصائل التي تقبل وتستجيب بجيش موحد، كجيش “أنطوان لحد” في جنوب لبنان.
إسرائيل ستكسب منطقة آمنة قد تمتدّ لسبعين كم عرضاً، وعشرين كم عمقاً، وفي منطقة استراتيجية حساسة ضيقة تُحسب المسافات والمكاسب فيها بالمتر الواحد.
إسرائيل التي وجّهت إعلامها ودعايتها مراراً خلال الحرب السورية لتظهر كبلد ديمقراطي حضاري يحرص على حقوق الإنسان ويعترض على جرائم الأسد، أسفرت اليوم للضرورة عن الحقيقة التي لم يكن هناك غيرها؛ وهي “أنها لا تأبه إلا لأمنها، وهي تريد بشدة عودة سلطة بشار الأسد إلى حدودها، حتى لو بقي بشار واستمرّت سلطته فوق مليون ونصف جمجمة سورية”.
ويبقى السؤال: هل ستنجح هذه الاتفاقية؟ وهل سيصمد وقف إطلاق النار؟
بالتأكيد سيصمد وقف إطلاق النار، ولكن ليس باتجاه “المتمرّدين” على أمريكا وإسرائيل والأردن و”الموك”. هؤلاء المتمردون لهم في الاتفاقية بنود خاصة بهم، بنود سرية وعلنية. وهؤلاء فقط من يهددون نجاح هذه الاتفاقية.
ربما ترون مقالي هذا بعد أيام مترجماً في المواقع الصهيونية ليدرجوني من جديد كمُعادٍ للسامية في هذا العام كما أدرجوني في عام 2011؛ لأنني فقط كتبت مقالاً قلت فيه: “إسرائيل تتفرج على الدم السوري. هل تريد إسرائيل دماً سورياً لفطير صهيون؟”. واليوم الثورة السورية تفضح إسرائيل أكثر من أي وقت مضى. إسرائيل شريك كما الجميع شركاء في الدم السوري طالما يريدون الإبقاء على بشار الأسد.
الخليجية أون لاين