ليس هناك لدى الرئيس باراك أوباما أيّة استراتيجيّة حيال سوريا والمنطقة. هذا بات واضحاً بما فيه الكفاية، وهو مُضر بما فيه الكفاية أيضاً. فقد دفع السوريون ثمناً باهظاً لهذا الغياب الأميركي عن العالم، ولاسيما الشرق الأوسط.
لكنْ، وخصوصاً مع التدخل الروسي والحضور الإيراني في فيينا، ترتفع النبرة التي تفيد بوجود مؤامرة أميركية على السوريين وثورتهم، وأن الأخيرين متروكون لأقدارهم السيئة بالمعنى الذي سبق للفلسطينيين أن صاغوه في صرخة “يا وحدنا”.
وهنا، لا بأس من تحرير الشعور بالمرارة من فكرة المؤامرة وما تستدعيه من ممارسة اللطم والندب، وإعادة ربطه بأسباب يمكن تبيّنها وتحديدها، وإن كانت هذه العملية لا تخفف كثيراً من حدة المأساة الفعلية.
فأولاً، وهذا ينبغي ألا يكون اكتشافاً أو صدمة، يصعب أن تظهر النوازع الأخلاقية والإنسانية في السياسة حين يبدو لصانع القرار أن أكلاف العمل بهذه النوازع أكثر من منافعه. لقد سبق لفرنسا وبريطانيا، عشية الحرب العالمية الثانية، أن فرطتا ببلد أوروبي كتشيكوسلوفاكيا الذي انتهى بين أنياب هتلر. فأين الاستغراب في التخلي عن بلد بعيد وغير أوروبي ولا يملك الغربيون أية عاطفة خاصة، ثقافية أو دينية أو سواها، حياله؟ وهذا فضلاً عن أنهم لا يرون فيه مصدر تهديد لأمنهم أو كسب لاقتصادهم.
ثانياً، ارتبط صعود أوباما السياسي، في حزبه “الديمقراطي” ثم في الوصول إلى البيت الأبيض، بمعارضته لسياسة الحرب في عهد سلفه جورج دبليو بوش، وبوعده بالانسحاب من مواجهات العالم، لا التورّط فيها. وكان لرضّة التجربة العراقية (والأفغانية) أثر زاد في تنفير الرأي العام الأميركي من أي تدخل يتعدى محاربة عدوه المباشر، أي “القاعدة” ومتفرّعاتها.
ثالثاً، تقول التجربة الأميركية في العقود القليلة الماضية إن الحروب ومواجهات الخارج هي آخر ما يتحمس له الأميركيون كائناً ما كان الدافع الإنساني أو الأخلاقي للتدخل. فبوش الأب كسب حرب العراق في 1991 وحرر الكويت على رأس تحالف دولي عريض، ولكنه رسب في الانتخابات الرئاسية لولاية ثانية بسبب سياساته الاقتصادية. أما نجله جورج بوش الابن، فعلى رغم ما زوّده به عدوان 11 سبتمبر 2001 من هالة بطولية يفتقر في الواقع إليها، ومن بعده حربا أفغانستان والعراق، أنهى ولايته الثانية مجرّداً من أية شعبية تُذكر. ومرة أخرى كان للوضع الاقتصادي السيئ أن أدى هذا الدور كما منع حزب بوش الجمهوري من تجديد الإقامة في البيت الأبيض.
رابعاً، ليست التوجهات التي يعبر عنها أوباما عديمة الصلة بحقائق صلبة في المجتمع الأميركي، حقائق لا يستطيع أن يتعامى عنها السياسي المنتخب ديمقراطياً. فاقتصاديّاً، لم يعد الخارج مصدر الثراء بما كان يجيز في أزمنة سابقة مبدأ التمدد والتوسع. لقد صار الداخل نفسه هذا المصدر، وهو في زمن العولمة داخلٌ يتركز في البلدان الأشد انخراطاً في الاقتصاد المعولم. وإذا كان هذا المبدأ يفسّر انعطافة أوباما باتجاه آسيا والمحيط الهادئ فإنّ تراجع الحاجة إلى النفط العربي إنما يفسر الابتعاد النسبي عن منطقتنا. أمّا اجتماعياً، فقد أنزل تقلّص أفراد الأسرة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية المزيد من الإضعاف بفكرة الحرب وتقديم التضحية فيها. فما كان يصح لعائلة لديها سبعة أبناء يُقتل واحد أو اثنان منهم في الحروب ما عاد يصحّ لعائلة تضم ولداً أو ولدين فحسب.
أمّا الباقي فقد تكفّل به أداء المعارضة السورية، وهو ما يستحق التفاتاً نقدياً إليه بحيث لا يستقطب العامل الخارجي كل طاقتنا النقدية. وعموماً، يجوز اتّهام أوباما بالتقصير وممالأة الشر وقواه، أما المؤامرة فبالتأكيد لا.
الاتحاد