صحيح أن زعيم حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي المحافظ، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يأتِ من بيئة عسكريّة إلى السياسة والسلطة، بل عبر انتخابات ديموقراطيّة لا شبهة فيها أو عليها، إلاّ ان هناك تقاطعات كثيرة بين تجربته في الحكم وبين تجربة الرئيس السوري السابق وزعيم حزب «البعث العربي الاشتراكي»، حافظ الأسد. ومن هذه التقاطعات:
1 – مطلع السبعينات، انقلب حافظ الأسد على رفاقه، حتى الذين هم من طائفته (محمد عمران، صلاح جديد،…) وأصدقائه من خارج الطائفة أيضاً ضمن قيادات حزب البعث (نور الدين الأتاسي)، وأطاحهم تباعاً. كذلك أردوغان، انقلب على رفاقه وداعميه (فتح الله غولن، عبدالله غول، أحمد داوود أوغلو، بولانت أرنيج…) والكثير من القيادات المؤسسة لحزب «العدالة والتنمية»، عبر التهميش والاستبعاد والضغوط والاغتيال السياسي، وليس عبر الاعتقال او الاغتيال الجسدي.
2 – كثيراً ما كان حافظ الأسد يتحدّث عن الشعب وإرادة الشعب وسلطة الشعب ودولة الشعب، وأنه مع الديموقراطيّة، وجعل من حزبه الحزب القائد للدولة والمجتمع، ودمج الدولة بالحزب، بحيث صار المجتمع ضحية الدولة، والدولة ضحية الحزب، والحزب ضحيّة الطائفة، والطائفة ضحيّة الأمن والجيش، والأمن خاضع للعائلة. كذلك فعل ويفعل أردوغان عبر الحديث عن الشعب والشرعية الشعبية وارادة الشعب، ويسعى الى تحويل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وجعل كل السلطات في قبضته.
وأتى الانقلاب العسكري الفاشل، ليزيد اردوغان من وتيرة مساعي إخضاع الجيش وكل سلطات الدولة الأربع (التنفيذيّة، التشريعيّة، القضائيّة والإعلام) لسلطة الأمن والاستخبارات القوميّة، التي ترتبط مباشرة به. بحيث تصبح أحزاب المعارضة، لزوم ما لا يلزم. وفي أحسن الأحوال، لزوم الديكور، شأنها شأن أحزاب «الجبهة الوطنيّة التقدميّة» التي كانت تسبّح بحمد نظام الأسد – البعث.
3 – التمرّد «الإخواني» على نظام الأسد الأب مطلع الثمانينات، دفعه إلى سحقه بعنف، مرتكباً مجازر بشعة. وصار نظام الأسد يعتقل الشخص بتهمة الانتماء الى تنظيم «الاخوان المسلمين»، حتى ولو كان أحد أقاربه، من الدرجة العاشرة، على علاقة مع التنظيم. كذلك أردوغان، استفاد من فشل الانقلاب العسكري الأخير، أيّما استفادة، وانقضّ على خصومه والمخالفين له. وصار يعتقل كل شخص يشتبه بأن له أو لأحد أقاربه أيّة علاقة بالانقلاب العسكري الفاشل، أو بجماعة غولن، أو بالعمال الكردستاني!
4 – حملات التطهير التي بدأها حافظ الأسد في مؤسسات الدولة، خصوصاً في الجيش والأمن، بدأت بعد انقلاب 16/11/1970، عبر ملاحقة او طرد انصار صلاح جديد ومحمد عمران، ثم ملاحقة وطرد انصار نور الدين الأتاسي والموالين لـ «جناح اليمين» في حزب البعث بزعامة ميشال عفلق وأحمد حسن البكر وصدام حسين، تلتها حملات التطهير بحق كل من يشتبه بأن لهم خلفيّة إسلاميّة – إخوانيّة، عقب أحداث نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات. واتخذ حافظ الأسد من مجزرة مدرسة المدفعيّة بحلب، ومن التمرّد في حماة، قاعدة ارتكاز استراتيجيّة في إجراء حملات التطهير والملاحقة تلك.
كذلك أردوغان، في البداية بدأ بحملات تطهير الاتاتوركيين في سلك الجيش والشرطة والاستخبارات. من ثم بدأت مرحلة تطهير للإسلاميين الموالين لفتح الله غولن في المؤسسات السالفة الذكر. واتخذ اردوغان من محاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة، قاعدة ارتكاز استراتيجيّة لشن حملة التطهير والملاحقة تلك، في حالة تشبه حالة حافظ الأسد.
5 – نظام الأسد الأب دعم التنظيمات اليسارية التركيّة المعارضة للنظام التركي، بخاصّة حزب «العمال الكردستاني»، منذ منتصف الثمانينات وحتى نهاية التسعينات. وكان حافظ الأسد ينفي دوماً وجود أوجلان ومعسكرات حزبه على الاراضي اللبنانيّة والسوريّة، وينفي في شكل مطلق اي دعم سياسي او عسكري او لوجستي لهذا الحزب! إلى أن أُجبر على التخلّي عن أوجلان وحزبه في خريف 1998، بعد التوقيع على اتفاقيّة أضنة، نتيجة التهديد التركي بغزو سورية. كذلك نظام الأسد الأبن قام بدعم التنظيمات التكفيرية والارهابية التي كانت تقاتل الاميركيين في العراق. وكان الأسد ينفي ذلك. أردوغان وحزبه، هما أيضاً دعما التنظيمات التكفيرية التي كانت تقاتل أميركا في العراق. كذلك دعم أردوغان كل التنظيمات التكفيرية والإرهابية (النصرة، أحرار الشام، السلطان مراد، نورالدين زنكي…) التي تقاتل على الارض السوريّة. وكان وما زال أردوغان ينفي هذا الدعم. نظام الأسد الابن يعتبر نفسه ضحيّة المؤامرة والإرهاب، ويطالب العالم بمساندته ضد الإرهاب. كذلك أردوغان يعتبر نفسه وحكمه ضحيّة الإرهاب ومؤامرة عالميّة، ويطالب بمساندته ضد الإرهاب!
ربما يتساءل أحدهم، لكن حافظ الأسد وابنه بشار قاما بتدمير مدن وارتكاب مجازر مروّعة كمجزرة حماة في شباط (فبراير) 1982. هذا صحيح. ولكن، صحيحٌ أيضاً أنه لو جمعنا حجم الضحايا الأكراد والاتراك، من مدنيين وعسكريين (مقاتلين كرد وجنود ترك)، بالإضافة إلى حجم الدمار الذي حلّ بالمدن الكرديّة (دياربكر، نصيبين، …) من فترة استلام «العدالة والتنمية» للحكم في تركيا عام 2002 ولغاية الآن، سنحصل على فاتورة حرب حقيقيّة شنّتها تركيا على أكرادها. طبعاً من دون حساب حجم الأضرار والخسائر الفادحة التي مني بها المجتمعان الكردي والتركي، على زمن الحكومات التركيّة التي سبقت «العدالة والتنمية».
معطوفاً على ما سلف، نظام الأسد الابن، تفاءل السوريون به، في بدايته. وسميّت مرحلة 2001-2002 بربيع «دمشق. واتضح في ما بعد أن الأمر محض أكذوبة، صدّقها كُثر، وصفّق لها محليّاً وعربيّاً وإقليميّاً ودوليّاً. كذلك نظام أردوغان في بدايته، تفاءل الناس به خيراً. واعترف اردوغان بوجود قضيّة كرديّة في صيف 2005، وانه سيحلّها سلميّاً. وعام 2009 أطلق ما سمّي بـ «الانفتاح على الأكراد». ثمّ استبدل العنوان بـ «الانفتاح الديموقراطي». وجرى حديث طويل عريض على أن اردوغان وحزبه سيكونان مختلفين تماماً عن الحكومات التركيّة السابقة، بخاصّة في الملّف الكردي والحكم المدني واحترام قيم الديموقراطيّة. إلاّ انه اتضح في ما بعد الوجه القومي، الطوراني، النيوعثماني، المذهبي لهذا النظام. وقد عبّر عن نفسه في خطابات أردوغان الانتخابيّة الأخيرة، بالإضافة إلى مساعي أسلمة الدولة ومؤسساتها، وبل «أردغنتها».
غالب الظن أن الأيّام المقبلة بما تحمله من إجراءات وممارسات أردوغانيّة في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة السياسيّة، بما ينسجم مع إرادة وطموحات أردوغان الشخصيّة، وجعل الأمن عصب الدولة وعقلها وعينها وروحها، بالإضافة إلى حملات التطهير التي وصلت إلى داخل الحزب الحاكم، كل ذلك من شأنه فتح الباب على مصراعيه لظهور حافظ أسد تركي، يقمع الداخل ويحاول إرضاء الخارج بهدف كسب صمته. ولكن، الحال لم تدم لحافظ الأسد وخليفته، حتى تدوم لأردوغان ومن سيخلفه في قيادة تركيا العثمانيّة الجديدة.
* كاتب كردي سوري
الحياة اللندنية