الأعمال الأدبية التي تنحاز إلى صف المجرم ضد العدالة والقصاص منه كثيرة، يصعب حصرُها أو إحصاؤها. كم من أدبٍ عظيم رفيع القدر، حُبكت لغتُه وأحداثُه، بحيث تُلهبُ نارُ العاطفة فيه، عقلَ الجماهير وتلاعب ضميرها.! خالقةً إحساساً مُرهفاً لملايين الناس، ضارعاً بكل توق وشغف لأن ينجوَ المجرم، بغض النظر عن جريمته التي يُقَلَّلُ من أهميتها عادةً إلى حد تقزيمها. بل إلى حدود عدمها، كأنها لم تكن ولم تحصل.
منذ عصر “سوفوكليس” حتى اليوم، هنالك حِسٌّ عميقٌ مجهول الهوية، لا يمكن سبره، جعلنا نتعاطف مع “أوديب” الذي قتل أباه وتزوج أمه، وانتهى إلى محاولة قتل نفسه أخيراً. رغم ذلك، ومنذ عشرات القرون التي مضت، فالبشرية بأسرها ماتزال تعطف على “أوديب” بضمير مرتاح. ولو قُيِّضَ للضمائر والإرادات أن تتدخل، لانحازت إلى القاتل الزاني، متجاهلةً ضحاياه. وليس مرورنا بـ”عُطَيل”، بطل شكسبير الأشهر، الذي قتل حبيبته “ديدمونة” الجميلة، هو آخر الأمثولات التي خلدتها البشرية، عنواناً لاصطفاف الإنسان مع المجرم البطل ضد العدالة، متجاهلاً الضحية البريئة.
أما حين نصل إلى عصر “دويستويفسكي” وأدبه الذي تربع على عرش الأدب والضمير العالميين معاً، فليس “راسكولنيكوف” الذي قتل امرأة عجوزاً، لكي يلِصَّ منها بضعة روبلات سوى قمة جبل الجليد، الذي طوى تحت طياته القاعدية عواطفَ وانحيازاً مع كثير من أبطال “دويستويفسكي” المجرمين، واخترنا أن نتمثلهم كنماذج، تكاد تفصح عن طويتنا البشرية، وجزءٍ خفيٍ من فطرتنا التي تمجد مجرماً وتعجب به، وتتعبد له مقابل ضحية من ضحاياه التي لا يكاد بالقطع أحدٌ أن يكترث لها، أو لدمها المطلول والبريء.
معضلة عطالتنا الآدمية، لا تتوقف عند حدود قتل “راسكولنيكوف” لـ “أليونا إيفانوفنا”، المرابية القبيحة والممتلئة بالطمع والشر، مقابل نقاء راسكولنيكوف ـ نبي الجريمة ومُشَرِّعها ـ وفلسفته وقلبه الكبير المحب. فقد اضْطُر “راسكولنيكوف” أن ينهي حياة ضحيته بأبشعَ ما يمكن أن يُتَخيّل ويُنتظَر؛ ببلطة حادة مزقت رأسها شرَّ تمزيق، ثم سرق من خزنتها بضعة روبلات، لا تسدُّ عوزَه ليوم واحد.
المعضلة الكبرى، أن شقيقتها الطيبة “ليزافيتا”، المحبة للخير، والتي تقضي جلَّ وقتها في الصلوات وأعمال الخير ومساعدة الفقراء، وتخفيف آلام المقهورين البائسين، حين دخلت فجأة إلى الصالة، واكتشفت منظر الجريمة وهي في ذروتها: أختها المذبوحة أمامها ببلطة حادة، وقاتلها، فيلسوف الجريمة، المتقد بالحماس لمبادئه الاستئصالية وعواطفه، وعُرام أفكاره التي تتلاطم كبحر من النيران.. حين اكتشفت الشقيقة موت شقيقتها، لم يعد ثمة مناص من قتلها هي الأخرى، للتغطية على الجريمة الأصلية.. هذا ما يسمونه في العلوم العسكرية بالضحايا المدنيين الأبرياء، والذين لا مندوحة من سقوطهم على هامش الأحداث الكبرى.
في السنوات الأخيرة اشتهر من بين الأعمال الفنية العالمية مسلسل إسباني شهير، بعنوان: دار أوراق النقد الوطنية، أو (مبنى الورق). (La Casa De Papel). حتى تعدت شهرته العالم كله
أخيراً تنتهي الجريمتان الفظيعتان بجريمة ثالثة، حين تنحصر شكوك الشرطة والمحققين، بصبي عامل دهان كان يعمل في طابق آخر من طوابق المبنى، فيُعتقل الفتى الدهان “نيقولا”، ويخضع للتعذيب والتحقيق المطول، ولفترة حبس مديدة، تجعل قارئ (الجريمة والعقاب) يتنفس الصُعَدَاء قليلاً، ويردد في نفسه: الحمد لله.. لقد مضت الأمور على خير باتهام الدهان “نيقولا”. المهم أن “راسكولنيكوف” ـ الذي هو على حق ـ نجا من العقاب، ولو مؤقتاً حتى حين.
في السنوات الأخيرة اشتهر من بين الأعمال الفنية العالمية مسلسل إسباني شهير، بعنوان: دار أوراق النقد الوطنية، أو (مبنى الورق). (La Casa De Papel). حتى تعدت شهرته العالم كله، وتجاوز متابعوه المعجبون والمنفعلون والمتحمسون له عشرات بل مئات الملايين حول العالم. ومع أن المسلسل لم ينته فصولاً بعد، وآخر إصدار له هذا العام كان الموسم الرابع، إلا أن القائمين على إنتاج العمل فنياً، نجحوا مرة أخرى في أن ينحاز الجمهور المتفرج بأغلبية تكاد تكون مطلقة، إلى جهة الفكرة الأساسية، وهي التعاطف مع العصابة التي تخطط لسرقة (بنك مدريد المركزي)، بملياراته وسبائك ذهبه، من قبل بعض شبان وشابات حالمين رومانسيين. يجمعهم على جريمة اقتحام البنك وسرقته رجلٌ يدعى البروفسور. وهو حقاً يشبه كثيراً البروفسورات، وأكثر جدارة من أن يكون مجرد لص ينطوي على ذكاء كبير، يفوق العقل الإنساني العادي. كما يبدو من خلال حلقات المسلسل أن آخر هم “عصابة اللصوص الأخيار” تلك، هو الحصول على المال والثراء.
هنالك دوماً جزءٌ خفيٌ يختبئ فينا، ويُلَّبسُ علينا. جزء ساخط على العدالة بكل تلاوينها على ظهر الأرض، راغب بالثورة والانتفاضة والاصطفاف، في هذه الدينونة الأرضية، لصالح مناصرة كل مُدانٍ. ارتياباً بالعدالة الأرضية التي كانت على الدوام ـ وما زالت ـ مناط جدال وريبة وشكوك. جزءٌ محتجٌ على حكمة الحضارة وقوانينها. فالعدالة هي سقف الغموض وعدمية الاستبانة الوجودية، والجريمة سقف الوضوح وتحقيق الذات والذنب معاً. بل إن الجريمة، القتل واللصوصية، هي الطريق الوحيد المتاح سبيلاً لتوسل العدالة، أو إلى عدالة مضمونة أكثر، تروي عطشنا وتشبع ذلك السُعار العاطفي الملتهب في خفايانا المظلمة. وحين تحدث الصدمات الكبرى، قد نتفاجأ بأن الذرا غير المتوقعة، ربما تستحيل إلى حقيقة ملموسة.
في مسلسل (La Casa De Papel) الشهير، ثمة ذروتان لا يمكن للعين أن تخطئهما: الأولى حين تنحاز الضابطة الجنائية “راكيل”، المكلفة من قبل الدولة بمحاصرة البنك، والتفاوض مع اللصوص، تمهيداً لانتهاز فرصة سانحة للانقضاض عليهم والإجهاز على مخططهم. حين تنحاز إليهم، وتصبحُ جزءاً من عصابتهم، وتهيم حباً وعشقاً بكبير العصابة والمخطط الأكبر فيها، زعيمهم الملقب بالـ “البروفسور”. ثم تأخذ لقباً عصاباتياً خاصاً بها، أسوة بباقي أفراد العصابة الذين يتكنون بأسماء مدن عالمية، فليس غير ذي دلالة أن تتحول المفتشة الجنائية من “راكيل موريللو” إلى “لشبونة”، وهو لقبها الحركي الجديد بعد انحيازها إلى عصابة لصوص البنك.
الذروة الثانية حدثت أثناء تصادم عصابة لصوص البنك، مع رئيس فريق الأمن الخاص بالبنك، الضابط المحترف والمتوحش، “غانديا”، داخل طوابق البنك وأقبيته الخفية. حيث ينكشف رجل الأمن عن وحش فاجر، يمارس القتل والتعذيب بلا شفقة، بينما يتعاون أفراد العصابة على مساعدة أكثر من واحد من الرهائن، ومداواته والتعاطف معه. وحيث الأمن والشرطة قتلة بلا تحفظ وتردد، واللصوص إنسانيون محبّون متعاطفون مع الرهائن، بل وممتنعون عن إطلاق النار والقتل، وبلا تحفظ أيضاً.
حتى الديانات الكبرى في التاريخ، أومأت بأكثر من إشارة نذير وإرهاص مبكر، إلى وقوف عامة الناس المتطلعة نحو العدالة، الشغوفة بانتصار الحق، واصطفت إلى جانب الجريمة والشر المطلق، مقابل الخير المطلق
حتى الديانات الكبرى في التاريخ، أومأت بأكثر من إشارة نذير وإرهاص مبكر، إلى وقوف عامة الناس المتطلعة نحو العدالة، الشغوفة بانتصار الحق، واصطفت إلى جانب الجريمة والشر المطلق، مقابل الخير المطلق. وانكشفت على أثَرَة للقتلة والسفاحين، لشكوكها وريبتها بتلك العدالة السائدة والمزعومة. فقد كان من التقليد المألوف لدى الرومان، أن يطلقوا في العيد أحد المحكومين بالإعدام الذين يختارهم الشعب. ورغم كل الضغوط التي مارسها اليهود على الحاكم الروماني “بيلاطس”، في سبيل اعتقال يسوع والخلاص منه تحت ذرائع شتى وحجج مختلفة، والتحريض الذي مارسوه للتخلص من يسوع الذي ثار عليهم وخالفهم تقريباً في كل شيء. رغم أن “بيلاطس” رضخ أخيراً لرغبتهم في الحكم على يسوع بالإعدام، فإنه في قرارة نفسه لم يجده مذنباً في شيء، ولا متهماً بأية تهمة واضحة، وظل يداعبه أملٌ أن يأزف العيد، فيطلق سراحه كما جرت العادة في كل مرة.
سمعنا كثيراً عن “باراباس”، ورأيناه في الأفلام التي تحكي عن حياة يسوع، فعندما يأتي مشهد الصلب في هذه الأفلام، نراه مع يسوع؛ اسمه قاطع الطريق “باراباس”، الذي كان مجرماً مسؤولاً عن العصيان والقتل والسرقة.. (فقد كان قاتلاً).. هكذا وصفه “بطرس” في أعمال الرسل 3: 14، حيث قال: (وكان الموت هو جزاء أفعاله).
اسم “باراباس” مكونٌ من جزئين هما؛ “بار”، الذي يعني ابن. و”اباس” والذي يعني أب، فقد كان “ابن أب” أي ابن شخص ما.. أي “ابن أبيه”، كما تقول العرب لابن الزنا المجهول النسب. وها هو إذن مع يسوع أمام بيلاطس. يسوع المسيح الذي لم يرتكب خطيئة، وكان يتجول ليصنع الخير ويشفي الناس ويعدهم بالخلاص، وعلى الرغم من ذلك، وقف منتظراً الموت. ومن ناحية أخرى كان هناك قاتل مجرم حُكِم عليه بالإعدام، وسيذهب أحدهما إلى الصليب. وكان لـ “باراباس” كل الأسباب ليكون هناك، فالصليب هو نهايته الطبيعية.
ولكن تصادف حضور عيد الفصح، ولم يكن في سجن الحاكم الروماني سوى سجينين محكومين بالإعدام: يسوع. واللص القاتل، قاطع الطريق “باراباس”، فنزل “بيلاطس” عند رغبة الجمهور، وخيَّرهم: أيَّ الرجلين المنتظرين الإعدام على الصليب يطلق سراحه ابتهاجاً بالعيد؟ فهتفوا جميعاً، وبرغبة واحدة وصوت واحد:
ــ “هو” من نريد إعدامه.. وليس باراباس.
الكاتب: معبد حسون
نقلا عن: تلفزيون سوريا