تشتعل الحرب الأهلية في سوريا منذ عدة سنوات، وأصبح ملايين السوريين لاجئين خلال تلك الفترة، بينما تشرّد ملايين آخرين داخل البلاد. بيد، لم يشهد العالم التدفق الهائل للاجئين إلى أوروبا إلا في الآونة الأخيرة. وبالتالي، يتطلب شرح هذا التوجه إمعان النظر في الظروف التي واجهها اللاجئون داخل سوريا وفي الدول المجاورة قبل أن يحوّلوا وجهتهم نحو أوروبا.
لماذا يفر السوريون من بلادهم
إن الغالبية العظمى من السوريين الذين يفرون من منازلهم يتركون بلادهم بسبب هجمات النظام. فخلال الشهر الماضي فقط أظهرت أرقام صادرة عن “مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” أن تصاعد حدّة القتال شمال غرب البلاد قد أسفر عن تهجير حوالي 120 ألف شخص منذ بداية التدخل الروسي، وسترتفع هذه الأرقام طالما تستمر هجمات النظام. وفي السابق، سعى المدنيون إلى الفرار من العنف الذي يجتاح جميع أنحاء سوريا، مثل تفجير شرق حلب، وتدمير اليرموك وباب عمرو وأحياء أخرى، واستعادة الجيش السيطرة على القصير ويبرود.
لقد أدى الهجوم الأخير الذي تدعمه إيران وروسيا إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المتدهور، وبالتالي قضى على الآمال في تحقيق نهاية سريعة للنزاع. وقد استهدف الروس، على وجه الخصوص، الجهود المبذولة لاستعادة الحياة الطبيعية في المناطق التي يسيطر عليها الثوار. وفي ظل تدمير الأسواق والمدارس والمستشفيات، فإن الهجوم الجديد هو عبارة عن تطبيق واضح لاستراتيجية مكافحة التمرد القمعية التي اتبعتها موسكو في الشيشان. ولا يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كسب القلوب في هذا التدخل.
لقد فقد معظم اللاجئين الأمل في رؤية السلام يعم في سوريا، ولكن حتى إذا أرادوا العودة إلى بلادهم فإن النظام يمنعهم من ذلك. على سبيل المثال، أُدرجت أسماء كل سكان باب عمرو، معقل التمرد السني في مدينة حمص، على القائمة السوداء للنظام، ولن يُعاملوا بأي رحمة إذا حاولوا هم أو أسرهم العودة إلى سوريا.
ويقيناً، أن فرض “الشريعة الإسلامية” المفترضة من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» قد أخرج العلمانيين السنّة والأقليات الدينية من بعض المناطق. ومع ذلك، تمنع الجماعة الجهادية بشكل عام العرب السنّة من مغادرة المناطق التي تسيطر عليها، لذا فإن عدداً قليلاً نسبياً من اللاجئين المتجهين إلى أوروبا كان قد طُرد من قبل تنظيم «داعش».
إن بشار الأسد سعيد لرؤية اللاجئين يغادرون سوريا، ويعود ذلك إلى حد كبير لأن رحيل الملايين من العرب السنّة يزيد من الوزن الديمغرافي للأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد. وهذا التطور يعكس الاتجاه الذي ظهر في العقود القليلة الماضية، عندما كانت معدلات الخصوبة منخفضة في صفوف الطائفة العلوية الأكثر ازدهاراً، إلا أنها بقيت مرتفعة في صفوف السنّة الأكثر فقراً. وقد قال الأسد بصراحة أيضاً إن سوريا تضم عدداً كبيراً من السكان بالنسبة إلى قاعدة مواردها. فبعد عام 1945، بدأ عدد السكان يتضاعف كل عشرين عاماً، كما أن معدل الخصوبة الكلي لم يبدأ بالانخفاض حتى عشية الحرب الحالية. وحتى قبل وصول الأسد إلى السلطة في عام 2000، كان اقتصاد البلاد غير قادر على توفير فرص عمل كافية، وزادت الفجوة بين طموحات الشباب وواقع السوق بشكل كبير في السنوات العشر التي سبقت الحرب، مما ترك ملايين السوريين يعانون من الإحباط الاجتماعي والاقتصادي الضخم ويشعرون برغبة قوية في مغادرة البلاد.
على الرغم من مآسيها، أعطت الحرب العديد من السوريين الفرصة لتحقيق أحلامهم. فحتى في المناطق السلمية نسبياً، أدت الظروف الاقتصادية السيئة والخوف من العنف إلى تحفيز السكان على بيع منازلهم وسياراتهم واستخدام المال للوصول إلى تركيا بشكل شرعي من لبنان (على سبيل المثال، عن طريق الطائرة من بيروت أو بواسطة القارب من طرابلس). حتى إن اللبنانيين والمهاجرين العراقيين استفادوا من الصراع بتظاهرهم أنهم لاجئين سوريين، وعبر شرائهم جوازات سفر سورية مزورة في تركيا مقابل مبلغ يقل عن 1000 دولار.
لا بد من الإشارة إلى أن المسيحيين السوريين يعيشون وضعاً خاصاً. فقد هرب العديد منهم من الهجمات التي شنها تنظيم «الدولة الإسلامية» أو جماعات الثوار، وليس النظام. ففي حلب، أدّى إطلاق الثوار للصواريخ إلى دفع نصف سكان حي “نور كيوغ” المسيحي الأرمني إلى الخروج منه. وعلى الرغم من أن بعض الأفراد من هذه المنطقة وغيرها من مناطق البلاد التي يسيطر عليها الثوار فروا إلى الأراضي التي يسيطر عليها النظام، إلا أنه يبدو أن نصف السكان المسيحيين، الذين كان عددهم قبل الحرب 1.2 مليون شخص، قد غادروا سوريا. ومع تمتعهم بمستوى تعليمي أعلى من المتوسط وبشبكة قوية في الخارج، فهم أكثر احتمالاً لمغادرة البلاد من المجتمعات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، هم لا يملكون ملاجئ جبلية مثل العلويين والدروز، ولا كانتونات يبنون فيها دويلة لهم مثل الأكراد. إلى جانب ذلك، لم يعد لبنان يشكّل ملاذاً لهم أيضاً. وفي الواقع، فقد العديد منهم الأمل في إمكانية بناء مستقبل لأطفالهم في الشرق الأوسط. وفي إطار استمرار النمط السائد منذ قرن من الزمن، يغادر المسيحيون المنطقة متجهين إلى الغرب.
لماذا يغادر السوريون الدول المجاورة
عموماً، لا يمكن دمج السوريين في الدول المجاورة المشبعة بأعداد كبيرة، كما أنهم ليسوا موضع ترحيب في دول الخليج. ومن جهة أخرى لن تكون المساعدات الدولية كافية لمنحهم مستوى معيشة كريم في الدول المجاورة، وهناك مخاطر عالية من انتشار التطرف بين الجيل الضائع من اللاجئين في سن المراهقة.
في لبنان، يعيش غالبية اللاجئين السوريين الذين يبلغ عددهم 1.5 مليون شخص في وضع يائس. فلا يوجد مخيمات للاجئين يمكنهم من خلالها الوصول إلى الخدمات الضرورية، كما أن ثلاثة أرباعهم يعيشون في ظروف غير مقبولة وفقاً لمعايير “المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”. ومن الناحية الفرضية، ينبغي أن تكون الرعاية الصحية مقدمة إليهم مجاناً في المستشفيات الحكومية لأن الأمم المتحدة تدعم هذه الرعاية، ولكن في الواقع لا يستطيعون الاستفادة من الخدمات الطبية دون دفع الرشاوى. أضف إلى ذلك أن المسؤولين اللبنانيين والآباء عموماً لا يريدون فتح النظام التعليمي للسوريين: فحوالي 30 في المائة فقط من أطفال اللاجئين يذهبون حالياً إلى المدارس. كما ويجب على كل سوري يتعدى عمره أربعة عشر عاماً أن يدفع ما لا يقل عن 360 دولار سنوياً للحصول على بطاقة إقامة، بينما كان المبلغ 200 دولار في عام 2014؛ ومن دون هذه البطاقة، يمكن أن يوضعوا في السجن لمدة أربعين يوماً. ومن ناحية أخرى، إن سوق العمل اللبناني في وضع صعب، لذلك فإن اللاجئين الذين يجدون عملاً، عادة ما يعملون من أجل تأمين طعامهم اليومي فقط. بالإضافة إلى ذلك، يعيش اللاجئون الذين تعاونوا مع المعارضة تحت التهديد المستمر بإعادتهم إلى سوريا. فالعديد منهم يخافون من «حزب الله» والقوى الأمنية اللبنانية التي غالباً ما تعتبرهم مؤيدين محتملين لـ تنظيم «داعش» أو لـ «جبهة النصرة» التي تدور في فلك تنظيم «القاعدة».
ومن جانبها، تَعرِض تركيا تقديم التغطية الصحية المجانية للاجئين، فضلاً عن مخيمات يمكنها استيعاب 200 ألف لاجئ، إلا أن عدد السوريين الذين دخلوا البلاد (2 مليون شخص) سبق وأن تخطى هذا الرقم. وخلافاً للوضع في لبنان، يشكل حاجز اللغة مشكلة رئيسية: فغالبية السوريين المؤهلين للعمل غير قادرين على ذلك ما لم يلموا باللغة التركية، كما أن الحصول على التعليم هو أمر صعب (فثلث أطفال اللاجئين فقط يرتادون المدارس في تركيا). وبالتالي، فإن العديد من اللاجئين ينتقلون، ببطء ولكن بخطى ثابتة، من مناطق المخيمات الحدودية نحو غرب تركيا مع فقدانهم الأمل في العودة إلى ديارهم في أي وقت قريب.
وقد تدهورت حالة اللاجئين أيضاً في مصر و«إقليم كردستان» في العراق. فغالبية اللاجئين في مصر، والذين يبلغ عددهم 130 ألف شخص، كانوا ينتمون إلى الطبقة الوسطى في سوريا. وتعتبر “المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” أن 30 ألف شخص من بينهم فقط هم ناس “ضعفاء”. وكانت حكومة الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي قد رحبت بهم، ولكن إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي تشك فيهم إلى حد كبير. لذا انخفضت أعدادهم إلى حد ما منذ صيف عام 2014 في إطار محاولة بعضهم الوصول إلى أوروبا عن طريق ليبيا أو المغرب. أما في شمال العراق، فجميع اللاجئين تقريباً، والذين يبلغ عددهم 250 ألف شخص، يأتون من الكانتونات الكردية السورية أو من دمشق. وعلى الرغم من أنهم كانوا قد وجدوا سابقاً وظائف بسهولة في «إقليم كردستان»، إلا أن الأزمة المالية المحلية قد حدّت من الفرص المتاحة أمامهم إلى حد كبير منذ كانون الثاني/ يناير 2014.
وفي هذا الإطار يُعتبر الأردن على الأرجح أفضل بلد مجاور للسوريين. فاللغة المشتركة والإدارة الأردنية الكفوءة تسهّلان عملية الدمج: على سبيل المثال، إن 80 في المائة من أطفال اللاجئين يرتادون المدارس. كما أن مخيم الزعتري الكبير يضم 80 ألف نسمة، في حين أن 82.5 في المائة من اللاجئين يعيشون في المجتمعات المضيفة. ولكن السوريين يعانون من المشاكل حتى في الأردن. فالبلاد تتمتع بذكريات سيئة من الحرب الأهلية في عام 1970 التي اندلعت بتحريض من اللاجئين الفلسطينيين، ولا تريد أن يسير اللاجئون الجدد على نفس الطريق. ويشكل موضوع العمالة مصدر توتر من ناحية أكثر عملية. فوفقاً لمسح أجرته “المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” في شباط/ فبراير 2015، كانت 1 في المائة فقط من أسر اللاجئين تشمل فرداً يحمل تصريح عمل أردني. ويعمل معظمهم بشكل غير رسمي مقابل أجور متدنية ويُنظر إليهم كمنافسين من قبل السكان المحليين. بالإضافة إلى ذلك، وبعد أن أغلقت عمان حدودها في تموز/ يوليو 2014 وقيدت دخول اللاجئين السوريين الجدد، بدأت السلطات بفرض قيود صارمة على حرية حركة السوريين داخل المملكة بسبب أعدادهم الهائلة، فضلاً عن مخاوف واسعة النطاق من شن عمليات انتقامية إرهابية يقوم بها أنصار تنظيم «الدولة الإسلامية». على سبيل المثال، لا يمكن للسوريين الذين يغادرون مخيماتهم بشكل غير قانوني الحصول على شهادة طالب لجوء.
جاذبية أوروبا
من الواضح، إذاً، أن الاستقرار في دول الجوار هو عملية معقدة وغير مرغوب فيها مقارنة مع معايير الحياة الأوروبية، وبعد أن سمع السوريون عن هذه المشاكل أو عانوا منها بشكل مباشر، قرر العديد منهم التوجه إلى القارة الأوروبية. ومثلهم مثل معظم اللاجئين، فهم ببساطة يريدون الرعاية الصحية والتعليم الجيدين، وأنهم على أتم الاستعداد للعمل لكنهم يواجهون عوائق أمام جميع هذه المساعي في الدول المجاورة. وهم يدركون أن لدى المجتمعات الأوروبية عراقيلها الخاصة التي تحول دون دمجهم، ولكنهم يعلقون آمالاً كبيرة على مساعدات الانتقال الواسعة المقدمة للاجئين. كما أن السياسة الأوروبية القائمة على لم شمل الأسرة هي ميزة أخرى، إذ تسمح للأشخاص الضعفاء تجنب مخاطر الهروب الأولي. على سبيل المثال، يمكن للأب أن يقوم بهذه الرحلة وحده، وأن يحصل عى بطاقة الإقامة، ثم يتقدم بطلب لم الشمل مع زوجته وأولاده وأهله.
ولسوء الحظ، أصبحت سوريا تشابه مرض السرطان الذي تُرك لفترة طويلة جداً دون علاج. وحتى في أبعد الاحتمالات، إذا نجح النظام بإلحاق الهزيمة بجميع معارضيه، فإن القمع اللاحق والتطهير العرقي والأزمة الاقتصادية ستستمر في توليد حركة هجرة قوية إلى أوروبا. وبالمثل، فإن فوز المعارضة المتطرفة من شأنه أن يولّد موجة من هجرة الأقليات السورية. وباختصار، سيستمر تدفق اللاجئين إلى أوروبا طالما أن الوضع في الداخل السوري يبدو ميؤوساً منه بالنسبة للكثير من الناس، وطالما أن المجتمع الدولي ومعظم الدول المجاورة لا يتخذون الخطوات الكافية لجعل هؤلاء اللاجئين قادرين على احتمال الوضع الذي هم فيه.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.