فيما يواصل المجتمع الدولي مناقشة إمكانية إنشاء ملاذات آمنة في سوريا لحماية ملايين المدنيين الذين شردتهم الحرب، تقدم دراسة موجزة حول العمليات الأخيرة الخاصة بالمناطق الآمنة نظرة متعمّقة بشأن التحديات والفرص المرتبطة بالجهود الرامية إلى إنشاء هذه المناطق.
العراق 1991-1996
بعد إخراج القوات العراقية من الكويت خلال “عملية عاصفة الصحراء” (كانون الثاني/ يناير – شباط/ فبراير 1991)، قام جيش الرئيس العراقي السابق صدام حسين بقمع الانتفاضات الكردية والشيعية التي اندلعت في أعقاب الحرب بشكل وحشي. وفي شمال العراق، توجه مئات الآلاف من الأكراد إلى الجبال وحاولوا دخول تركيا وإيران بحثاً عن مأوى. وفي نيسان/ إبريل من ذلك العام، سمح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 [بحشد] جهود الإغاثة الإنسانية لهؤلاء النازحين الأكراد ودعا الدول الأعضاء إلى المساهمة في العملية.
ورداً على ذلك، نظمت الولايات المتحدة “عملية توفير الراحة” التي شملت نشر 20 ألف جندي من ثلاثة عشر بلداً بغية تأمين ملاذ آمن للأكراد في شمال العراق الذين وصل عددهم ما بين 500 إلى 700 ألف لاجئ، فضلاً عن أشكال مختلفة من المساعدة من ثلاثين دولة مانحة وحوالي خمسين منظمة دولية وغير حكومية. وقد توجب على قوات التحالف بناء بنية تحتية لوجستية مؤقتة لدعم الجهود الإنسانية، وربط مناطق التجمع بمخيمات اللاجئين. وفي الوقت نفسه، أنشأت القوات البرية ملاذاً آمناً في الشمال خالياً من جيش صدام حسين، كما قامت طائرات التحالف بدوريات فوق منطقة حظر الطيران شمالاً من خط العرض 36.
وبحلول حزيران/ يونيو 1991، عاد جميع الأكراد النازحين تقريباً إلى ديارهم في شمال العراق، وهي المنطقة التي تحولت في النهاية إلى «حكومة إقليم كردستان» شبه المستقلة والقائمة اليوم. وفي المقابل، استمرت قوات التحالف المتبقية الصغيرة العدد في شمال العراق وتركيا بمراقبة الملاذ الآمن ودعم عمليات منطقة الحظر الجوي حتى نهاية عام 1996، عندما انتهت “عملية توفير الراحة” رسمياً. وفي كانون الثاني/ يناير 1997، تم إطلاق آلية لإنفاد منطقة الحظر الجوي التي سُمّيت هذه المرة بـ “عملية المراقبة الشمالية”، وبقيت سارية المفعول إلى أن غزت قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة، العراق وأطاحت بصدام حسين في عام 2003.
البوسنة 1992-1995
في الوقت الذي دخلت فيه يوغوسلافيا السابقة باب الحرب الأهلية في أوائل التسعينيات، تم توسيع ولاية “قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة”، التي كانت منخرطة آنذاك في عملية حفظ السلام في كرواتيا، لتشمل مهمة إنسانية في البوسنة. وفي حزيران/ يونيو 1992، سمح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 758 للقوة بتأمين مطار سراييفو وإقامة ممرات آمنة للقوافل لإيصال المواد الغذائية إلى المدينة المحاصرة. وقد تم بعد ذلك تمديد هذه الولاية لتشمل مرافقة قوافل المساعدات في إطار يتخطى العاصمة. وفي نيسان/ إبريل 1993، عاد قرار مجلس الأمن رقم 819 ووسع ولاية “قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة” لتشمل حماية المدنيين الفارين من التطهير العرقي في سربرنيتشا، معلناً المدينة وضواحيها “منطقة آمنة”. وفي الشهر التالي، وسّع قرار مجلس الأمن رقم 824 نطاق هذه الحماية ليشمل خمس مدن أخرى.
وفي الوقت نفسه، كان مجلس الأمن الدولي قد منع الرحلات الجوية العسكرية من التحليق في المجال الجوي البوسني من خلال القرار رقم 781، الذي اعتُمد في أيلول/ سبتمبر 1992. بيد، تم انتهاك هذا القرار مراراً وتكراراً، لذا اعتمد المجلس القرار رقم 816 في آذار/ مارس 1993 الذي يجيز للدول “ضمان الامتثال” لحظر الطيران. وفي نيسان/ إبريل، شن “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) “عملية حظر الطيران” لفرض منطقة الحظر الجوي، وفي وقت لاحق لتقديم الدعم الجوي القريب لـ “قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة“.
وعلى الرغم من المسؤوليات المتزايدة لـ “قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة”، فشلت الأمم المتحدة والدول المشاركة في تزويد المنطقة بالدعم السياسي اللازم وبالقدرات العسكرية الضرورية للتعامل مع تدهور الوضع الأمني على الأرض. إلا أن قوة النيران غير الكافية، والتوجيه السياسي غير الواضح، والسلسلة المتشابكة من القيادة، والقيود السياسية التي غالباً ما أجبرتها على اتخاذ موقف دفاعي سلبي، كلها عوامل أعاقت عمل هذه القوات. وبالمثل، فإن عملية المهام الجوية المربكة والمرهقة ذات “القيادة المزدوجة”، والتي كانت تتطلب موافقة “حلف شمال الأطلسي” والأمم المتحدة قبل العمليات، أدت إلى تأخيرات طويلة في تقديم الدعم الجوي.
وفي النهاية، تمت مهاجمة جميع المناطق الآمنة الست، كما تم اجتياح منطقتين (سربرنيتشا وزيبا). وفي تموز/ يوليو 1995، وقفت قوة صغيرة من “قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة” في سربرنيتشا مكتوفة الأيدي فيما تم فصل 8000 من الذكور المسلمين من مختلف الأعمار عن عامة السكان وقتلهم. ويُمكن القول إن تلك الإخفاقات السياسية المأساوية قد مهّدت الطريق لـ”عملية القوة المتعمدة” لـ”حلف شمال الأطلسي” (آب/ أغسطس – أيلول/ سبتمبر 1995) واتفاقية دايتون التي أنهت الحرب (للمزيد من التفاصيل، انظر المرصد السياسي عام 1898، ” الملاذات الإنسانية الآمنة: الدروس المستفادة من البوسنة لسوريا“).
ليبيا 2011
في عام 2011، حاول نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي القضاء على انتفاضة “الربيع العربي” في ليبيا، مما دفع بمجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ قرارين: القرار 1970 الذي دعا القوات الحكومية إلى وقف الهجمات على المدنيين، والقرار 1973 الذي سمح للدول الأعضاء باتخاذ “كافة الإجراءات اللازمة” لحماية المدنيين المعرضين للخطر. وعلى الرغم من أن هذا القرار الأخير سمح بإقامة منطقة حظر جوي، إلا أنه استبعد “قوة الاحتلال الأجنبية“.
وفي وقت لاحق، إن عمليات الحظر الجوي التي فرضها حلف “الناتو” سمحت لقوات الثوار بإرساء الأمن في العديد من المناطق، نظراً إلى أن قوات القذافي على الأرض لم تعد قادرة على القيام بمغامرات كبرى أبعد من العاصمة ومن معاقلها في غرب ليبيا ووسطها. وفي حين لم يحدد القرارين كيف سيتم حماية المدنيين من الهجمات البرية، إلا أن هذه المسألة أصبحت نقطة خلاف عندما تحولت عمليات منطقة الحظر الجوي إلى عمليات جوية هجومية ساعدت الثوار في النهاية على هزيمة قوات القذافي (للمزيد من التفاصيل، انظر المرصد السياسي 1765، “منحدر خطر: ليبيا ودروس من مناطق حظر الطيران السابقة“).
لكن في هذه الحالة، لم يولّد النجاح العسكري نجاحاً سياسياً. فبعد هزيمة القذافي، أعادت قوات “حلف شمال الأطلسي” توزيع قواتها تاركة نظاماً ضعيفاً وغير مستقر انهار بيد أمراء الحرب وغرق في الفوضى الذي يميز وضع ليبيا الحالي.
التداعيات
من نواحٍ عديدة، يختلف الوضع الحالي في سوريا تماماً عن الصراعات الماضية المذكورة أعلاه، بيد إن كل حالة من هذه الحالات تقدم دروساً هامة لأي جهود لإقامة منطقة آمنة في سوريا مستقبلاً. وعلى وجه الخصوص، يتطلب نجاح هذه العملية العوامل التالية:
· تفويض قانوني وتوجيه عملي لا لبس فيهما. سواء جاء على شكل قرار من قبل مجلس الأمن الدولي أو آلية قانونية أخرى، يجب على النص الذي يأذن بالعملية أن يكون واضحاً بشكل لا لبس فيه. كما أن قواعد التدخل العسكري ستستند على هذه الولاية، ولا بد لها من أن تكون بسيطة ومباشرة، وتفهمها كافة القوى المشاركة. ومن شأن الإذن بولاية واضحة أن يخفف أيضاً من أي مخاوف قد تكون لدى روسيا وغيرها من أصحاب المصلحة حيال الهدف المقصود من المنطقة الآمنة (انظر المرصد السياسي 2564، “المبررات القانونية لإقامة منطقة آمنة في سوريا”). بالإضافة إلى ذلك، يجب ألا تفرض الولاية قيوداً غير ضرورية على استخدام القوات المنتشرة لتأمين المنطقة الآمنة.
· الوضوح حول الطرق والوسائل والغايات. ينبغي تحديد وضع نهائي قابل للتحقيق ووضع خارطة طريقة قابلة للتنفيذ وذات مصداقية في خلال مرحلة التخطيط لأي عملية تتعلق بمنطقة آمنة. ويكمن الهدف النهائي في ضمان عودة النازحين واللاجئين أو إعادة توطينهم. ولأسباب عملية وسياسية، قد تكون الدبلوماسية المحيطة بالمرحلة النهائية من العملية أكثر صعوبة من الدبلوماسية المتعلقة بإنشائها. إلى جانب ذلك، تتطلب العمليات الناجحة للمناطق الآمنة في بعض الأحيان التزامات ثابتة تستمر إلى ما بعد عملية العودة إلى الوطن/ إعادة التوطين. ففي نهاية المطاف، تحولت العمليات الإنسانية في العراق والبوسنة وليبيا إلى بعثات مختلفة جداً ذات أهداف أكثر اتساعاً من ذلك بكثير. وقد قضت الولايات المتحدة عقداً من الزمن وأنفقت مليارات الدولارات لفرض ملاذها الآمن ومنطقتين للحظر الجوي في العراق. وفي النهاية أصبح تغيير النظام استراتيجية للخروج الأمريكي من العراق، ومن ليبيا أيضاً. أما في البوسنة، فقد تحولت العملية الإنسانية المتعثرة إلى عمليات هجومية ضد القوات الصربية.
· فريق أرضي- جوي قوي ومتوازن. على الرغم من أن منطقة الحظر الجوي هي جزء لا يتجزأ من العديد من عمليات المنطقة الآمنة، إلا أنها ليست كافية بمفردها لضمان ملاذ آمن ضد القوات البرية المعادية التي تتمتع بعزيمة قوية، كما شهدنا في البوسنة والعراق. فما نجح في ليبيا من عمليات جوية لن ينجح في سوريا، حيث العدد الكبير والمعقد من الفصائل الثائرة والمتطرفة التي تعمل على الأرض، والتي تتراوح من تلك الصديقة إلى المعادية، وحيث تساعد القوى الخارجية مباشرة في العمليات العسكرية للنظام. وبغية تأمين مناطق آمنة وردع العدوان، لا بد لعناصر الدعم على الأرض من أن تكون كبيرة وقوية بما فيه الكفاية. وحتى في هذه الحال، يمكن لردع الجماعات الإرهابية وقوات العملاء أن يكون صعباً للغاية.
· وحدة القيادة. إن وجود تسلسل قيادي واضح يُعتبر ضرورياً بغض النظر عن مدى تعقيد هيكل القوة. ولا بد من وجود جهة اتصال واحدة مباشرة بين العناصر البرية والجوية لضمان تقديم الدعم في الوقت المناسب، ونشر المعلومات الاستخباراتية الحيوية، ومنع الاقتتال الداخلي، وحماية القوات البرية والمدنيين على حد سواء.
· بيئة سياسية مواتية. إن التوافق مع الدول المجاورة والشركاء الإقليميين أمراً حاسماً لضمان عدم تعطيل المفسدين للمهمة أو تخريبها. على سبيل المثال، أدت الهجمات التركية ضد «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق في بعض الأحيان إلى تعقيد “عملية توفير الراحة”. وبالمثل، عندما هاجمت القوات البرية العراقية في عهد صدام حسين الجيب الكردي في شمال العراق عام 1996، فإن قيود الدول المضيفة المفروضة على الطائرات الضاربة الأمريكية والبريطانية قد أعاقت جهود التحالف لتوفير الحماية. فإذا كان التوافق السياسي مستحيلاً بالنسبة إلى بعض الأطراف في سوريا، سيكون الردع حينذاك ضرورياً، مع جميع التحديات التي يمكن أن تترتب عن ذلك.
إن أي عملية لإنشاء منطقة آمنة في سوريا تتجاهل الدروس المستخلصة من الماضي وتغفل هذه العناصر الرئيسية، قد تخاطر باحتمال أكبر للفشل ومزيد من المعاناة للمدنيين، فضلاً عن إمكانية توسيع أهداف المهمة، مما قد يؤدي إلى انتشار الصراع إلى درجة أكبر.
اللفتنانت كولونيل جون بارنيت (سلاح الجو الأمريكي) هو زميل للشؤون الدفاعية في معهد واشنطن. مايكل آيزنشتات هو زميل “كاهن” ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن. الآراء المعرب عنها هنا هي آراء الكاتبين ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو موقف سلاح الجو الأمريكي، أو وزارة الدفاع الأمريكية، أو حكومة الولايات المتحدة.
مركز الشرق العربي