بالتوازي مع المعارك الدائرة على الجبهات في سوريا، تدور معركة أو بالأصحّ أمرٌ أكبر وأكثر امتداداً، إنها حرب لكنها من نوع آخر، وهي لا تقلّ ضراوة عن عما يجري في الميدان رغم أن أسلحتها وميدانها مختلف، إنها حرب “المناهج الدراسية” التي تجري بعيداً عن أصوات للمدافع والطيران، لكنها لا تقل تأثيراً في حاضر البلاد ومستقبلها، كونها تؤسس لأجيال بأكملها.
ورغم دخول أطراف عدة؛ محلية وإقليمية ودولية على خط الصراع، إلا أن التنافس ينحصر بمجموعة من الفاعلين الأساسيين عندما يتعلق الأمر بالحرب في إطارها الشامل، وعلى هذا الأساس نجد كيف أن كلاً من نظام الأسد والمعارضة السورية والإدارة الذاتية (التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي) وتنظيم الدولة “داعش”، ينفقون المال والجهد وفق استراتيجيات مختلفة، تجمعها الرغبة بتشكيل النشء بما يتناسب مع أهداف وتصورات كل طرف.
أفكار انفصالية
بعد تأسيس “فيدرالية” الإدارة الذاتية شمالي شرقي سوريا (مدينة الحسكة والمناطق التابعة لها) بفترة قصيرة، تنبّه القائمون عليها إلى أهمية برمجة المناهج التعليمية، للتأثير إيديولوجياً وفكرياً على الأطفال الكورد والعرب المقيمين في تلك المناطق، إضافةً إلى تحقيق غايات أخرى، كنشر اللغة الكردية.
وقامت هذه الإدارة بإجراء سلسة تغييرات على المناهج الدراسية، حيث عدّلتها في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وجعلت الكردية لغةً أساسية في معظم مراحل التعليم، إضافةً إلى أنها أغلقت المعاهد الخاصة في مناطق سيطرتها، وهدّدت المعلّمين الذين يقومون بإعطاء دروس خصوصية خارج المدارس بالعقاب.
وقالت الإدارة في بيان صادر عنها مؤخراً، إنها تهدف إلى “عودة الوظيفة التعليمية والتربوية للمدارس”، متهمة المعلمين بتحويل العملية التعليمية إلى تجارة من خلال الدورات في المدارس والمعاهد الخاصة، وأشارت إلى أن معظم المدرسين لم يعودوا يولون اهتماماً بالتعليم في المدارس كي يجذبوا الطلاب للدروس الخاصة.
يقول مدرّس يعيش في مناطق الإدارة الذاتية لـ “صدى الشام”: “إن مسوّغ الإدارة لإلغاء التدريس الخصوصي بهدف تنظيم الأمر ومنع تحول المهنة إلى تجارة، يغطّي على هدفها الرئيس”.
وأضاف المدرّس الذي رفض الكشف عن هويته، أن الإدارة تتخوّف من قيام المدرّسين العرب تحديداً بإعطاء دروس من مناهج مغايرة أو تعادي فكرة الانفصال التي تحاول الإدارة الذاتية تكريسها في المناهج الدراسية عبر إقناع الطلاب بأنها حالة شرعية”، وأضاف أن الإدارة وجدت في الطلاب أهم بيئة لغرس هذا الفكر لذلك ركّزت على المرحلتين الابتدائية والإعدادية وتركت طلاب الثانوية يدرسون مناهج نظام الأسد الأساسية.
وكانت الإدارة الذاتية قد أصدرت تعميماً مطلع أيار الماضي، شمل كافة المدارس في مناطق سيطرتها، أكدت فيه أنها ستضمّ المدّرسين الذين يتقاضون رواتبهم من حكومة النظام إلى ملاكها، متعهدة بدفع هذه الرواتب، ولفت التعميم إلى أن تدريس مناهج الإدارة الذاتية الكردية يستثني صفوف الشهادة الثانوية فقط.
تلك التغييرات تشمل المدارس الابتدائية والإعدادية في مدن وبلدات “القامشلي، الدرباسية، الحسكة وعفرين” وتستثني المدارس الموجودة في المربعات الأمنية التي يسيطر عليها النظام في مدينة الحسكة، وحي الوسطي في القامشلي حيث تعمل مؤسسات النظام.
يقول الناشط عيسى جمالو، المقيم في ريف الحسكة لـ صدى الشام: “إن الإدارة الذاتية سبّبت ضرراً للطلاب والمدرّسين على حدٍ سواء”، شارحاً أن النسبة الأكبر من المدرّسين هم من العرب، وقد أجبرتهم الإدارة هلى تعلّم اللغة الكردية الصعبة، وإلا فإنهم سيُحرمون من وظائفهم ويحلّ مكانهم مدرسون كورد.
وأضاف أن الطلّاب أيضاً تضرّروا من فرض هذه اللغة الإجبارية والأفكار الانفصالية التي باتت تغص بها منهاجهم، مبيّناً أن جزءًا من الطلاب الكورد ممن يتحدثون الكردية غير قادرين على قراءتها حتى أو كتابتها بشكل نموذجي، ما يجعل فرض هذه اللغة مشكلة ومحاربة للهوية السورية.
قامت الإدارة الذاتية بمجموعة إجراءات تتعلق بالتعليم، ومن بينها إحداث تغييرات في المناهج الدراسية، وجعلُ الكردية لغة أساسية في معظم المراحل، إضافةً إلى إغلاق المعاهد التعليمية الخاصة وتهديد المعلّمين الذين يقومون بإعطاء دروس خصوصية بالعقاب.
وسيلة للاستمرار
لعل تنظيم الدولة كان من أكثر الأطراف في النزاع، التي استخدمت الأطفال بعدة طرق ليكونوا وقوداً لحربه التي يخوضها في سوريا والعراق ومناطق أخرى.
وأَولَى التنظيم اهتماماً بالغاً بالتعليم منذ اليوم الأول لسيطرته على كل منطقة، وذلك بهدف لغرس أفكاره في الأجيال الجديدة.
ولتحقيق هذه الغاية لجأ التنظيم إلى إصدار مناهج خاصة به، دون أن يَعترف بأي مناهج أخرى سواء من النظام أو المعارضة.
ومن بين الكتب الدراسية المعتمدة في مدارس التنظيم هناك “التاريخ، الجغرافيا، التربية الجهادية، التوحيد، الفقه، السياسة الشرعية، الإعداد البدني التي يتم خلالها تدريب الطلّاب على استخدام الأسلحة الرشاشة، الآداب الشرعية، فقه الشريعة وعقيدة المسلم وعلوم الأحياء”.
وكان إعلان لصحيفة “النبأ” التي تُعتبر إحدى الأذرع الإعلامية للتنظيم، قد كشف في أيار الماضي، عن افتتاح مدرسةٍ للأطفال في جنوبي دمشق، وهو ما يشي بالاهتمام البالغ بهذا الأمر.
وتعدّ “مدارس أشبال الخلافة” هذه وسيلة التنظيم لغسيل الأدمغة، وسبباً لضمان استمراريته عبر تحويله من قوة عسكرية قد تعيش الهزائم أو الانتصارات، إلى فكرة صامدة قائمة في النسيج المجتمعي.
من الكتب المعتمدة في “مدارس أشبال الخلافة” “التاريخ، الجغرافيا، التربية الجهادية، التوحيد، الفقه، السياسة الشرعية، الإعداد البدني التي يتم خلالها تدريب الطلّاب على استخدام الأسلحة الرشاشة، الآداب الشرعية، فقه الشريعة وعقيدة المسلم وعلوم الأحياء”.
مناهج “البعث”
“فرحت ماريا .. فرح فلاديمير”، هل سيأتي يوم تدخل هذه العبارات مناهج نظام الأسد؟ لم لا بما أن الحلفاء المشاركين في دعم النظام وضمان بقائه باتوا يبحثون عن حصصهم في كل شيء لقاء مجهوداتهم في محاربة ثورة السوريين.
قبل انطلاق الثورة كان نظام الأسد قد ملأ المناهج الدراسية بعبارات تقديس “القائد” والحزب الواحد، وأقحم مبادئ حزب البعث في كل المراحل، وتلاعب بحقائق التاريخ ليصنع الأجيال “البعثية” التي يريد.
غير أن النظام لم يكتفِ بهذا وحسب بل حاول التلاعب بمسائل لها حساسيتها، فقبل نحو عام ناقش مجلس الشعب التابع للأسد إلغاء مادة التربية الدينية، وجاء في أحد الوثائق حينها: “بناءً على توجيهات سيادتكم بتدقيق الكتب الدراسية عند دفعها للطباعة، فقد جرى تدقيق الكتب الدراسية خاصة مواد الدراسات الاجتماعية والتربية الدينية، وتصويب بعض العبارات”.
وفي إطار تغييرات النظام في المناهج فقد جرى تعديل كل جملة تحتوي على “فتح العثمانيين” إلى احتلال أو الاستيلاء، فقد جاء في القرار ذاته: “شمل التغيير جملًا تضمنها كتاب التاريخ واستبدلت فيها الألفاظ المتعلقة بصياغة (فتح العثمانيين) للقسطنطينية، وعدّلت المناهج على أساس (دخل العثمانيون القسطنطينية وليس فتحوها)، بينما عدّلت جمل أخرى بلفظ (الاستيلاء على القسطنطينية)”.
وتحوّل اسم “محمد الفاتح”- بحسب التعديل- إلى محمد الثاني، وتم التلاعب بجملة حقائق ووقائع تاريخية، بهدف التحريض على الدول التي اتخذت موقفاً ضد الأسد.
ولم يقف الأمر هنا، حيث أعلن النظام هذا العام عن تعديلٍ جديد للمناهج الدراسية، سيشمل مادة التربية الإسلامية، حيث أعلن وزير التربية في حكومة النظام “هزوان الوز”، أن وزارته تعمل على تعديل منهاج التربية الدينية في المراحل التعليمية، في خطوة للتوعية والابتعاد عن الجهل والتطرف”، حسب تعبيره.
ونقلت صحيفة “الوطن” المقرّبة من النظام عن “الوز” قوله أواخر أيار الماضي: “سيتم طرح المناهج الجديدة بدءًا من العام القادم، والبداية ستكون من المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية ومن بعدها الثانوية، وذلك على مدار أربع سنوات”، مضيفاً: “نعمل حاليًا على تطوير مادة التربية الدينية وليس إلغاءها”، وأشار إلى أن “التطرف لا ينشأ من الدين بل الجهل به، وسيتم تطوير المناهج بشكل مستمر بما يتناسب مع المراحل التعليمية”.
ويأتي ذلك في وقت لم يقُم فيه النظام بأي تعديلٍ في مادة “التربية القومية الاشتراكية” التي تعد من أشهر كتب الدعاية لحزب البعث.
ضمن التغييرات التي أجراها النظام في المناهج جرى تعديل كل جملة تحتوي على “فتح العثمانيين” إلى احتلال أو استيلاء، ، كما تم التلاعب بمجموعة حقائق ووقائع تاريخية، بهدف التحريض على الدول التي اتخذت موقفاً ضد الأسد.
معركة خاسرة
تُعتبر المعارضة السورية ومؤسساتها التربوية من أكثر الأطراف التي ابتعدت عن خوض معركة المناهج الدراسية، فلم تجرِ الكثير من التغييرات، أو تصدر مناهج “مؤدلجة” على غرار ما فعلت بقية الأطراف.
وكانت قد تأسست وزارة التربية والتعليم التابعة للحكومة السورية المؤقّتة، لتدير شؤون التربية والتعليم في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وانبثقت عنها مديريات التربية والتعليم في عدّة محافظات، وطُبعت مناهج دراسية على هذا الأساس، لكن ما جرى أن الرؤى لم يتم تطبيقها إطلاقاً، وفقما يشير الناشط الإعلامي عبد الله الحموي، المقيم في محافظة إدلب.
ويقول الحموي لـ “صدى الشام”: “إن المدارس التي تقع في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية ما زالت حتى اليوم تدرّس المناهج التي وضعها نظام الأسد”، موضحاً أن المعارضة قامت بحذف المواد التي يظهر فيها الولاء للنظام السوري مثل التربية القومية الاشتراكية، وتُركت بقية المواد كما هي.
وبيّن الحموي أنه على الرغم من تعدّد المرجعيات والمؤسّسات التربوية والتعليمية للمعارضة، والتمويل الذي حصلت عليها إلّا أنها فشلت في الدخول بمعركة المناهج، لافتاً إلى أنها لم تقم بإضافة أي كتاب يشرح للطلاب قضية السوريين في التحرّر والظلم الذي تعرّضوا له، حسب وصفه.
الحموي: لا تزال المدارس في مناطق المعارضة تدرّس المناهج التي وضعها نظام الأسد، وقد تم حذف المواد التي يظهر فيها الولاء للنظام مثل التربية القومية الاشتراكية، وتُركت بقية المواد على ما هي عليه.
الأطفال هم الضحية
لو دققنا فيما يجري على ساحة التعليم بسوريا من تنازع، فإننا سنلاحظ تفوق طرف على آخر، لكن من الخاسر فعلياً في هذه المعركة سوى الأطفال؟
يقول الأخصائي النفسي والاجتماعي أيمن بدوي لـ صدى الشام إن “وجود 4 مناهج دراسية في دولة واحدة؛ كلّ منهاج منها يحمل أفكاراً تعادي الآخر، يؤدّي إلى انقسام الأطفال إلى 4 فئات وفرق ستقوم بطحن بعضها بعضًا مستقبلاً بوتيرة أكبر من تلك التي نراها اليوم”.
ويرى بدوي أن الأساس في استمرار أي عنف مسلّح هو الإيديولوجيا، وأن الأطفال السوريين اليوم يتلقّون الأفكار المتعارضة مع مصالح الفريق الآخر، ما يعني أنه حتى لو سقط النظام اليوم وهدأت وتيرة المعارك فإن ذلك لن يؤدّي إلى توقف النزاع مستقبلاً، داعياً ذوي الأطفال للعب دورٍ هام للحد من تأثير المناهج المؤدلجة على عقول أطفالهم.
صدى الشام