طرح المحلل السياسي ميكا هالبيرن في مقال نشره في موقع Real Clear World في 26 /5 /2016 السؤال التالي: “هل تكون سورية بمثابة أفغانستان أخرى لروسيا؟”، وذلك على خلفية هجوم “داعش” في 14 مايو الماضي على قاعدة عسكرية روسية في سورية تدعى باسم “تي-4” في محافظة حمص. أسفر عن إحراق 4 طائرات عمودية من طراز (إم أي- 24) وتدمير 20 شاحنة وضرب مستودع تخزين. ونشرت شركة استخبارات خاصة تدعى “ستراتفور”، صورا للقاعدة الروسية التقطتها أقمار اصطناعية قبل وبعد الهجوم، أظهرت بوضوح ما أحدثه الهجوم والحرائق الناجمة عنه.
ولكن موسكو نفت جملة وتفصيلا وقوع الهجوم المذكور. وبرر هالبيرن هذا النفي بقوله: “لا تريد روسيا أن يعتقد العالم كله بشكل عام، وخاصة مواطنيها، بأن الهجوم كان من فعل “داعش”. وهم يريدون ألا يعرف أحد بأن الروس عانوا سلسلة من الخسائر على يد “داعش”. لكنه أكد، من جهة أخرى أن روسيا “تعتبر الآن الهدف رقم واحد على قائمة أهداف “داعش”. وقد شاهدنا ذلك عندما أسقط “داعش” طائرة ركاب روسية بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ، مما أفضى إلى مقتل ركابها وعددهم 224 راكباً، وينوي “داعش” إقحام روسيا في مستنقع مكلف، والذي يكرر فشلها البائس في أفغانستان (1979-1989)”.
يستنتج من مقال هالبيرن أن موسكو تعمل بجدية من أجل إسقاط مشروع “أفغنة” سورية، وذلك على خلفية استخلاص العبر من تجربتها الأفغانية، وإنكارها وجود نقاط تشابه بين المشهد الأفغاني في 1979 والمشهد السوري المأزوم منذ 2011.
لكن ثمة تقارير تفيد أن موسكو تراوغ وتضلل الرأي العام الروسي من خلال تقليدها واشنطن في استخدام شركات أمنية خاصة في سورية. فغلى غرار شركة “بلاك ووتر” الأميركية يوجد في سورية نحو 10 شركات أمنية روسية متخصصة بالقيام بالأعمال القذرة مقابل المال، أرسلتها روسيا” إلى سورية لحماية نظام الأسد. ومن تلك الشركات:SB- Antiterror – MAP MSGroup – Center g – ATKgroup – Slave corps – PMC Wangner – E.N.O.T Cossacks.
ومن أهم تلك الشركات: شركة “الفرقة السلافية” التي دخلت الحرب في سورية منذ 2013، ثم انسحبت بعد أن تكبدت خسائر كبيرة، وتحولت إلى فرقة “فاغنر” التي حاربت في أوكرانيا في شبه جزيرة القرم، ومن ثم انتقلت إلى شرق أوكرانيا في لوغانسك، واسم رئيسها الحركي “فاغنر” وهو المقدم دميتري وتكين، خدم في القوات الخاصة في منطقة بيشورا في الفرقة 700 اللواء الثاني استخبارات، والشخصية الثانية في الفرقة، وهو “تشوبا” واسمه الأصلي “سيرغي تشوبوف” برتبة رائد، قتل في ضواحي دمشق في 8 فبراير 2016، حارب في أفغانستان في الفرقة 56، وفي الشيشان في اللواء 46. وتتبع لـ “فاغنر” 3 فرق استطلاع وأعمال خاصة في سورية الآن، تعمل في مجالات الدعم الناري والاتصالات والخدمات الطبية.
وتفيد التقلبات المفاجئة المعهودة في عالم السياسة وفي الواقع الجيوإستراتيجي الشرق أوسطي، أنه أنجزت فعلياً عمليتي “طلبنة” تنظيم “داعش” و”قعدنة” تنظيم جبهة النصرة. ويجري حالياً تنفيذ عملية “بكستنة” تركيا من خلال وضعها بين مطرقة الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني أي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي يشكل العمود الفقري لقوات سورية الديمقراطية “قسد”، وسندان تنظيم “داعش” الذي لوح قبل عام بضرورة إنقاذ إسطنبول من العلمانيين، والدعوة إلى إقامة الخلافة الإسلامية فيها مجدداً.
ويعكس الدعم الأميركي لـ”قسد” اتساع الفجوة بين تركيا الإردوغانية والولايات المتحدة. وتستحضر المتغيرات التركية صورة باكستان التي رعت طالبان وحاولت استثمارها في صراعها مع قوى إقليمية ودولية، وحصدت حالة من عدم الاستقرار الداخلي، حيث تعاقبت حكومات ضعيفة ورزمة اغتيالات وصعود وأفول الجنرال برويز مشرف، إضافة إلى استضافة باكستان مئات الآلاف من اللاجئين الأفغان.
وتشكل عملية “أفغنة” سورية هدفاً مشتركاً لقوى دولية وإقليمية ومحلية متحالفة ومتخاصمة في الوقت نفسه منها: (موسكو، واشنطن، طهران، تل أبيب)، تسعى إلى بلوغه بأشكال وأدوات مختلفة، وتحت يافطة رئيسية هي محاربة الإرهاب بنسخه المتعددة وفي مقدمها النسخة “الداعشية”.
والأمر اللافت للاهتمام أن سماء سورية تعج بخليط من الطائرات المقاتلة، كما ترتفع فيها عشرات الرايات والأعلام التي تضع علامات استفهام حول ما تبقى من الجغرافيا السياسية السورية بعد نحو قرن من بداية تشكلها. إذ تلوح في الفضاء السوري نذر ما يسمى “سورية المفيدة” أو “سورية الصغرى”.
وتتعدد معاني مصطلح “سورية الصغرى”، ويختلف إعرابه وصرفه سياسياً وجغرافياً وتاريخياً. فالمعنى الأول لمصطلح “سورية الصغرى” قد يشمل “دمشق الكبرى”، ويستدعي في الوقت نفسه تجربة “دولة دمشق” البائدة (1920 – 1925) التي كانت تشمل مدن حمص وحماة ووادي نهر العاصي. التي فقدت الدولة 4 من أقضيتها الفرعية التي كانت من ضمن دمشق في الفترة العثمانية وضمت إلى جبل لبنان ذي الأغلبية المسيحية من أجل تكوين دولة لبنان. والمقاطعات الأربع المنزوعة هي صيدا وطرابلس الشام وبيروت وسهل البقاع.
كما قد تعني “سورية الصغرى” الجديدة استحضارا لما كان يسمى “الاتحاد السوري” الذي شكله الجنرال هنري غورو عام 1923 من دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين مؤقتا التي فصلت عن الاتحاد السوري في 1 ديسمبر 1924. ولاحقاً تحول الاتحاد السوري إلى ما عُرف باسم “الجمهورية السورية”.
وما يجري حالياً هو إعادة إنتاج المسألة السورية والصراع على سورية الذي أنتج استقلالين: الأول عن فرنسا والثاني عن مصر. أما استقلال “سوريا الصغرى” أو “سورية الجديدة” في ظل فوضى الجيوش والرايات؛ فيبدو أنه رهن تكريس هدف “أفغنة” سورية الذي يشكل الشمال الجيوبوليتيكي لبوصلة التقسيم وتصغير سورية وتصفير دورها الإقليمي، وتصحيرها اقتصادياً لتكون بذلك “أفغانستان الثانية”.
الوطن السعودية