حينما وصل حافظ الأسد إلى السلطة، في أواخر سنة 1970، هُرعَ فريقُه الإعلامي إلى القاموس السياسي السوري، فشطبوا منه مصطلح “المُظاهرة” الذي يعني الرفض، والاحتجاج، والتمرّد، وأحَلُّوا محله مصطلح “المَسيرة” الذي يعني الدعم، والتأييد، والتفافَ الجماهير الكادحة حول هذا القائد.
وخلال زمن ليس طويلاً من عمر انقلاب حافظ الأسد الذي عُرِفَ باسم “الحركة التصحيحية المجيدة”، جَرَّبَ هذا الإعلامُ عدةَ تسمياتٍ للقائد، منها: قائدُ الشعب، وقائدُ الأمة، وقائدُ الجماهير، والقائدُ العربي، والقائدُ التاريخي، والقائد البطل،.. دواليكَ حتى استقر قرارُهم على التسمية النهائية: قائد المَسيرة.
وأما المسيرة فلها ملحقات كثيرة، منها: مسيرة البناء، مسيرة التحرير، مسيرة التأييد، مسيرة التصحيح، المسيرة العفوية،.. إلخ.
ابتداءً من أواسط الثمانينيات، أصبح حافظ الأسد مولعاً بالمسيرات، لا يسرّه ولا يُطربه ولا يُبهجه شيءٌ في الوجود أكثر من رؤية الشعب، وهو يمشي في الشوارع (مُكْرَهَاً وليس بَطَلَاً)، مغبراً، عطشاً، منهكاً، غير قادر على رد السلام. وبموجب هذا الولع، كان يوعز لحاشيته القريبة، أن توعزَ، بدورها، لفروع الحزب، وشُعَب المخابرات، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، والمنظمات الشعبية المنتشرة في المحافظات السورية، بأن يُخْرِجوا الناس، بشيبهم، وشبابهم، رجالِهم، ونسائهم، وفتيانهم، وأطفالهم، إلى الشوارع، حاملين صورَه، وأعلامَ الجمهورية و”البعث”، واللافتاتِ القماشيةَ التي تشيد بقيادته التاريخية وانتصاراته على الصعيد العالمي، وعطاءاته على الصعيد المحلي، كفتح المدارس، وشق الطرقات، وبناء الجوامع، وافتتاح معاهد تحفيظ القرآن الكريم، وتشييد الفنادق والمولات التجارية والمستشفيات.. إلخ.
وحينما يتعذّر على القائد المفدّى إيجاد مناسبةٍ تصلحُ لإرغام الناس على الركض في الشوارع، كان يتلذذُ برؤية جموع الناس المحتشدين في طوابير، أمام أبواب الأفران، والمؤسسات الاستهلاكية، والجمعيات التعاونية، ومنافذ البيع في صالات شركة التجزئة، والمؤسسة الاجتماعية العسكرية… وهذه الحشود المتدافعة، المقتتلة، الصابرة، المستسلمة، لم تكن لتوجد أصلاً لولا السياسةُ الاقتصاديةُ الحكيمة التي رسمها الفريقُ الاقتصادي الخاص به، (وبتوجيهٍ منه طبعاً)، وتعتمد على التقشّف، والتقنين، وشد الأحزمة على البطون، والاكتفاء الذاتي الذي تجلى بمنع استيراد سلع كثيرة تلزم للمواطن في احتياجاته اليومية.
كان معدل المسيرات ينخفض في أيام الرخاء والانتعاش، ويرتفع في أيام القحط والجفاف، وأما عدد المشاركين في المسيرات فما انفك يكبر ويزيد، مع الزمن، حتى وصل إلى ما اصطلحوا على تسميتها (المسيرة المليونية).
كانوا، على سبيل المثال، يأمرون الناس بالخروج في مسيراتٍ (عفويةٍ) صبيحة اليوم التالي لحملة اعتقالاتٍ واسعة تقوم بها أجهزة المخابرات في الليل.
ويأمرونهم بالخروج عندما تقصف طائراتٌ إسرائيلية موقعاً عسكرياً سورياً، ويكون السبب المعلن لهذه الفرحة هو احتفاظ القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة بحق الرد في المكان والزمان المناسبين… أما الطامة الكبرى للمسيرات فكانت تأتي حينما يشعر نظام الأسد بالإفلاس، فيعقد القائد اجتماعاً طارئاً مع أركان حكمه من السياسيين والاقتصاديين والمخابرات والعسكر، ويسألهم عن رأيهم، فيقولون له إن رفع قيمة المحروقات بنسبة 25% يدر على الخزينة حوالي عشرين ملياراً من الدولارات.
أما زيادة الرواتب فتكلف، في الحد الأقصى، ثلاثة مليارات، ويشرح أحدهم لسيادته قائلاً: وأنتم سيد العارفين، يا قائدنا، أن شعبكم الأبي لا يجرؤ على الاحتجاج، حتى ولو أرهقته الزيادة الكبرى في الأسعار التي ستنجم عن زيادة أسعار المحروقات، لكنه، بلا شك، سيمتلئ فرحاً وسروراً حينما يسمع أن سيادتكم وقعتكم مرسومَ زيادة الراتب، ونحن نضمن لك خروج المسيرات في كل مكانٍ من القطر الصامد الذي تقودونه.
إنه لمن نافل القول إن الأسد كان مصاباً بداء السكري. ومع ذلك، كان يقف على شرفة وزارة التربية ست ساعات متواصلة، وهو يفرفح بيديه للجماهير (المُسَيَّرة) في أثناء مرورها من تحت الشرفة زرافات ووحداناً، من دون أن يشعر بحاجة حتى إلى التبول.
أي نعم.
العربي الجديد =- خطيب بدلة