منذ أمس، عرض العديد من السيناريوهات أمام عباس، أولها، أن يتم إرسال وفد يضم شخصاً أو اثنين يختارهما لتمثيله، كما فعل الملك الأردني، عبد الله الثاني، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي.
لكن اتصال عائلة بيريز بالرئاسة وإعرابها عن أملها بمشاركة عباس، جعلت السيناريوهات تتغير، إذ أعرب الرئيس عن رغبته في المشاركة، وهنا ظهر رأي آخر مفاده: “لماذا لا يذهب عباس لعزاء العائلة، وتحديداً ابنة بيريز في القدس، ليأخذ العزاء شكل رسالة إنسانية، وليست سياسية؟”، لكن الرئيس رفض وأصر على الذهاب.
وترأس عباس وفداً يضم ثلاثة من أعضاء اللجنة مركزية في حركة “فتح” وهم رئيس لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، محمد المدني، وكبير المفاوضين صائب عريقات، على الرغم من أن المفاوضات دفنت بين الجانبين منذ نيسان/أبريل 2014، ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ.
وكان من المقرر أن يكون مع هؤلاء، رئيس جهاز المخابرات اللواء ماجد فرج، لكنه تعرض لحادث سير صباح اليوم ما منعه من المشاركة. وألمحت مصادر عدة إلى أن حادث السير “العرضي” لم يكن عرضياً، وأخرج اللواء فرج من إحراج المشاركة في الجنازة في اللحظات الأخيرة.
وأمام الغضب والانتقادات الشعبية الحادة التزم المستوى الرسمي الفلسطيني الصمت المطبق، وحتى الذين شاركوا في التشييع فضّلوا إما عدم الحديث والاعتذار بطريقة لبقة، أو أقفلوا الخط بوجه الصحافي المتصل، كما جرى مع “العربي الجديد”.
لم يخرج أي قيادي فلسطيني ليخاطب الرأي العام ويجيب عن سؤال واحد: “ما الذي تجنيه القيادة من المشاركة في جنازة قاتل أطفال قانا، ومؤسس الاستيطان والسلاح النووي الإسرائيلي؟”.
وفي هذا السياق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس محمود محارب لـ”العربي الجديد”: “ما قامت به القيادة الفلسطينية لا يخدم الرواية التاريخية الفلسطينية، ويقدم خدمة مجانية للمهرجان الذي قدمته إسرائيل من أجل الحصول على دعم دولي فيه الكثير من الدجل والكذب في مسيرة بيريز. الذين أبّنوه تجاهلوا دوره العدواني تجاه الفلسطينيين والعرب، ومشروعه الذي أدى إلى تفوق إسرائيل العسكري واحتكارها السلاح النووي في المنطقة”.
واعتبر أن مشاركة عباس في تشييع بيريز ألحقت ضرراً كبيراً بالموقف الفلسطيني، قائلاً: “القيادة الفلسطينية من خلال مشاركتها أعطت صورة مضللة للعالم، بأن الفلسطينيين والإسرائيليين يعيشون بوئام، وكل شيء على ما يرام، وكأنه لا يوجد استيطان وقتل يومي”.
وأضاف: “إذا فكرنا بحسابات الربح والخسارة، فالموقف الفلسطيني خاسر بوضوح، لماذا على الرئيس أن يذهب لجنازة بيريز في ظل احتلال وعدم وجود مسيرة سلام. الرئيس عباس بخطوته هذه لم يقدم تعريفه لإسرائيل أمام العالم بأنها دولة احتلال وقتل وتدمير، فضلا عن عدم وجود أي جدوى سياسية فعلية من المشاركة”.
الانتقادات وحالة الاحتقان الشديدة في الرأي العام الفلسطيني لم تتوقف منذ يوم أمس، وكأن كل مواطن فلسطيني اعتبر الأمر شخصياً، وعبّر عن غضبه وانتقاده. لكن هذا الغضب لم يتجاوز وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل غياب جذري لأي معارضة حقيقية فلسطينية، إذ لم تخرج أي مظاهرة أو وقفة احتجاج على الأقل، ولم يقم أي قيادي فلسطيني بإدانة واستنكار تعزية الرئيس بالسفاح.وتابع: “الأمر الآخر الذي يعكس الخسارة الكبيرة في خطوة القيادة هو أن الدول العربية التي تريد التطبيع مع إسرائيل تختبئ وراء الموقف الفلسطيني وتتسلح به، وتستخدم الأفعال الفلسطينية غطاء لها للتطبيع”.
واكتفت الفصائل الفلسطينية ببيانات متلعثمة وخجولة، على منوال حزب الشعب الذي أصدر بياناً قال فيه: “المشاركة الفلسطينية على أي مستوى كانت في جنازة بيريز أمر غير مقبول على الإطلاق”، مع دعوات أخرى “منزوعة الدسم” للقيادة بعدم المشاركة، مثل بيان “الجبهة الشعبية”.
باختصار من أصدر بيان من فصائل المنظمة “تمنى على الرئيس عدم المشاركة” فقط.
موقف “فتح” كان الأصعب، ميدانياً؛ أنصار وكوادر “فتح” ضد المشاركة في جنازة بيريز، الفتحاويون وغيرهم وجدوا في تصريحات عضو المجلس الثوري لحركة “فتح”، يحيى رباح، “كيس ملاكمة” حقيقياً لصب جام غضبهم على الرجل الذي صرّح لقناة فرنسية: “بأن بيريز كان ناشطاً يسارياً قوياً، ويتمتع باحترام الشعب الفلسطيني”.
حتى الفتحاويون وجهوا سهام غضبهم نحو رباح الذي خسر المعركة مع أنصار “فتح” الغاضبين والشارع الفلسطيني، فيما التزمت قيادات الصف الأول في “فتح” الصمت.
عبارة عباس عندما صافح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قائلاً بالإنكليزية “لقد مر وقت طويل”، ليبادر الأخير “بالفعل مر وقت طويل” وصورة الرئيس الفلسطيني وهو يضع يده على رأسه مستغرقاً بالتفكير، وسلام رئيس الولايات المتحدة الأميركية، باراك أوباما الدافئ لعباس، مع ابتسامة وقبلة، وجلوس الوفد الفلسطيني مع الوزيرة الإسرائيلية والمفاوضة السابقة تسيبي ليفني، كل ذلك وغيره بات مادة للانتقاد والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل آلاف الفلسطينيين.
حركة الشبيبة الفتحاوية، وهي الذراع الطلابية لـ”فتح”، والتي بدأت تحسب خساراتها في الجامعات بعد مشاركة عباس وثلاثة من مركزية “فتح” في جنازة بيريز منذ الآن، أصدرت بياناً استنكرت فيه “النفاق العالمي تجاه رحيل المجرم شمعون بيريز”، مؤكدة “رفضها التام لأي تصريحات، أو خطوات فلسطينية، تظهره بمظهر الشريك، أو صانع السلام”.
وأبدت رفضها المشاركة الفلسطينية الرسمية في مراسم تشييع بيريز، مشيرة إلى أن ذلك “يعتبر نقيضاً للإرادة الشعبية”، لكن الشبيبة على الرغم من أنها تسبح ضد قرار عباس في تصريحاتها لكنها لم تدن مشاركته ولم تدع إلى موقف جاد منه.
وفي هذا السياق، قال مدير مركز العالم العربي للبحوث والتنمية “أوراد” نادر سعيد، “في السنوات الأخيرة النهج الرئيسي الذي قام عليه عباس ومن حوله هو التوجه للعالم أولاً، ومن ثم الشعب الفلسطيني ثانياً، أي التركيز على العالم والولايات المتحدة”.المجتمع الدولي المذكورة أعلاه هي الكلمة الأكثر استخداماً من القيادة الفلسطينية في الأعوام الثلاثة الماضية على الأقل.
وتابع: “هذا هو الجمهور الرئيسي الذي تتوجه له القيادة اليوم، وعدم مشاركتهم ستحتسب كعلامة سيئة للقيادة وبالتالي هم اعتقدوا أن من مصلحتهم تكريس هذا التوجه لإرضاء العالم”.
وحول مخالفة القيادة للرأي العام الفلسطيني بأكمله قال: “القيادة الحالية منذ فترة طويلة جدا تعتقد أنها تفعل الشيء الصحيح للشعب الفلسطيني بالطريقة التي تراها هي مناسبة حتى لو كان مخالفاً للرأي العام الذي تشكله الأغلبية، وهذا اختيار القيادة الفلسطينية الواضح، وبالتالي تجاهلها للرأي العام يعود لأنها تفكر أنها تقوم بما هو لصالح المجتمع وأن الشعب لا يعرف مصلحته وهي من تعرف”.
العربي الجديد