المرجح أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، كان بارعاً في مادة التعبير، وكان يكتب مواضيع إنشاء رائعة، فقد أبدع عبارة مُلفتة بأن ما يحصل في أوحش المسالخ أقل وحشيةً مما يحصل في حلب. كأن العالم كان يحتاج هذه العبارة، ليعرف ويفهم حجم مأساة حلب. كأن الصور التي تعرضها الفضائيات عن تنويعات الدمار والخراب التي لا تستطيع الهزات الأرضية والزلازل إحداثها، لكن تجار الحروب قادرون على تدمير حلب، ولن تؤثر في ضمائرهم الميتة كلمة بابا الفاتيكان الذي طلب منهم أن تصحو ضمائرهم رأفةً بحلب وسكانها.
ويبدو أن صاحب الغبطة لا يتخيّل وجود بشرٍ بلا ذرة ضمير. كان بان كي مون مُوفقاً في وصف ما يجري في حلب، فمشهد الأطفال المُغبرين، وقد كانوا ساعات أو أياماً تحت الأنقاض، مُروع، كما لو أن كل سكان حلب أصبحوا مطليين بالتراب، والدم المتخثر في أنوف الأطفال وعيونهم، والإعاقات المتنوعة، والتي يعجز الطب عن وصفها، والتصعيد اليومي، ولغة الإعلاميين والسياسيين، بضرورة ضبط النفس لكل الأطراف.
ثمّة عباراتٌ دارجة كل فترة، ففي هذه المرحلة من جحيم حلب ومسلخها العبارات الدارجة: ضرورة ضبط النفس، ثم الضغط على الأطراف المتصارعة، ثم الإبداع الأخير لبان كي مون مسلخ حلب، كما لو أن المطلوب فقط تجاه حلب وصف ما يحدث فيها، وقراءة عناوين الصحف لتعداد القتلى ورؤية صور الدمار. وتحليلات لسياسيين يزعمون أن روسيا وأميركا متفقتان، من تحت الطاولة، على موضوع حلب، وبأن واشنطن سوف تقدم حلب إلى روسيا في مقابل أن تكون حصة أميركا الغاز السوري، حلب بين فكي كماشة: روسيا وأميركا، ولا دور للسوريين أبداً في المعادلة.
مهندس لامع في حلب يقترب من عقده السادس، وكان مسؤولاً عن أكثر من عشرين مهندساً في مكتبه الخاص الذي أنشأ مدارس ومشافي وعمارات شاهقة، خسر كل شيء، وتحول لاجئاً في هولندا، مجرد تلميذ عليه أن يتقن اللغة الهولندية الصعبة، وأن ينجح في الامتحان، ومسموح له أن يرسب مرتين، وإن رسب في الثالثة تُطبق الحكومة الهولندية بحقه عقوبات محددة.
هل يبالي قادة العالم وتجار الحروب ومجلس الأمن والمنظمات الحقوقية بمعاناة هذا السوري الذي كان يخدم وطنه وفي قمة عطائه، وكان يشعر بكرامته وإنسانيته، ثم خسر كل شيء، وتحول مكتبه وبيته إلى أنقاض، وهام إخوته وأصدقاؤه في الأرض، من اليونان إلى السويد إلى ألمانيا إلى كندا، وإلى دول الجوار. يُعتبر محظوظاً لأنه لا يزال على قيد الحياة، فالحياة ترف في سورية، والموت لم يعد يُدهش أحداً، حتى إن الطبيعي منه تحول رفاهية.
ولا يخجل أحد من السياسيين والبارعين في تحليل الأخبار، والذين تحولوا نجوماً سينمائية، من استعمال تعبير: المطلوب تدمير حلب أكثر، حتى ينبت الحل من قاع الدمار. هل يمر يوم من دون أن يُقتل عشرات الحلبيين، بل مئات منهم، ومن دون أن يُعطب عشرات منهم، ألا تضاهي قصص الحلبيين قصص أفظع أفلام الرعب، وربما هذا ما أوحى لبان كي مون لكي يصفها بأنها أفظع مسلخ. لم يعد سوري واحد مُغفلاً، والكل يعرف أن الجميع متفقٌ على تدمير حلب وحضارتها العريقة وتميزها وتهجير الحلبيين وقتلهم، حتى الذين يدعون حمايتها، ويسمون أنفسهم أصدقاءها، لا ينفكون يقصفونها ليل نهار للقضاء على “الخلايا الإرهابية”، وهو من تعابير دارجة هذه الأيام. هل أطفال حلب خلايا إرهابية، أم براعم لم تتفتح للحياة بعد؟ ومن بقي حياً من أطفال حلب تشوّه نفسياً، فصارت لعبته الوحيدة لعبة الحرب، ببنادق بلاستيكية أو عصي يستعملونها على أنها بنادق.
وأخيراً، واضح أن الجميع، بمن يسمون أنفسهم أصدقاء سورية، غايتهم تدمير حلب، وبأن الدول العظمى في الإجرام راضية، وتنتظر حصتها من تسويةٍ ما لم يأت أوانها بعد، لأن ثمّة أبنية في حلب ما زالت قادرة على أن تظهر صامدة وواقفة، وتقاوم القنابل الفوسفورية وقصف الطيران. واضح أن الكل يتعامل مع حلب كما لو أنها مجرد موضوع تعبير، وثمّة منافسة على من يبدع أكثر في وصفه. ولا أعرف إن كنا سنسمع وصفاً أكثر إبداعاً من وصف بان كي مون حلب بأنها مسلخ، وبأن ما يحصل فيها أفظع مما يحصل في أوحش المسالخ. .. حلب الشهباء، أنت في نظر العالم موضوع تعبير.
العربي الجديد – هيفاء بيطار