قبل الحديث عن العلاقات الدولية يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: أن الدولة التي لا تستطيع أن تحاربها اليوم، فيجب أن يكون بينك وبينها علاقات مشتركة تصب في مصلحة دولتك. حتى إذا قررت تلك الدولة محاربة دولتك كان الضرر الواقع عليها أكبر من الضرر الواقع عليك من وجوه:
1- ضرر اقتصادي للدولة المعتدية.
2- حرج سياسي دولي للدولة المعتدية كونها بدأت الاعتداء.
3- تردد الدول الأخرى في الوقوف مع الدولة المعتدية في حال طلبت الدعم، خوفًا على مصالحها الاقتصادية واتفاقياتها مع دولتك أولًا، وخوفًا من الحرج السياسي في حال كان الاعتداء غير مبررًا ثانيًا.
4- يمكنك المطالبة بمقاطعة اقتصادية أو سياسية للدولة المعتدية، بغض النظر عن مدى استجابة المجتمع الدولي لمطالبك.
الجانب الثاني: أن اتفاق العالم كله ضد كل ما يمثل الحرية والعدالة، يضطرك أن تقوم بتحييد ما تستطيع من الأعداء المتوقعين مستقبلًا، ومن الجنون إعلان الحرب على كل العالم دون وجود أي مقومات اقتصادية أو عسكرية، ودون وجود دول صديقة قوية وجادة تستطيع أن تقف معك بقوة وحزم في هذه الحرب.
وهذا على خلاف ما تقوم بتصويره بعض الجماعات السياسية أو الدينية من وجوب إعلان الحرب الدينية والممانعة السياسية ضد كل العالم!!
فكل الممانعات السياسية في العصر الحديث دون استثناء كانت كاذبة، والشواهد على ذلك كثيرة ليس هنا مجال عرضها. أما الحرب الدينية التي تنادي بها بعض الجماعات فلا وجود لها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حارب قريش وقريش فقط، ثم حارب قبائل الجزيرة العربية بعد صلح الحديبية، ثم راسل الملوك وقاتل بعضهم فقط كنوع من رد العدوان فقط، ثم جهز بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه لقتال الروم، ولم يبدأ قتال الفرس إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم. فمن أين جاءت تلك الجماعات بفكرة وجوب حرب العالم دفعة واحدة؟!!
الجانب الثالث: خاص بتركيا وسوريا، وهو علاقة الجوار والقرابة بين الشعبين التركي والسوري، وهذا يحتم أن يكون لتركيا دور في كل مشروع قادم بشأن القضية السورية، عدا عن دورها الأكيد في إعادة الإعمار مستقبلًا، أو في دخول الشركات عبر أراضيها على أقل تقدير.
هذه الجوانب السابقة الذكر تحَتِّم أن يكون خيار العلاقات الجيدة هو الخيار الأول والاستراتيجي بالنسبة لتركيا في علاقتها مع الحكومة القادمة بعد توقف المجازر، وسبب عدم توصيفها بالحرب؛ لأنها لم تكن – ولا لحظة واحدة – حربًا بين طرفين متكافئين، ولكنها مجازر ترتكبها مجموعة من المليشيات المجمَّعة من حول العالم، بحق مدنيين لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا تساؤل مهم: ما هي صورة الحكومة المقبلة بعد توقف المجازر؟
والحقيقة أن شكل العلاقة التركية السورية ستختلف مستقبلًا تبعًا لشكل الحكومة السورية المقبلة، والحكومة السورية المقبلة لا تخرج عن الاحتمالات التالية:
الاحتمال الأول: أن يبقى الأسد على هرم السلطة السياسية وتستقر له الأمور: وهو الاحتمال الأشد سوداوية، وفي هذه الحالة يستحيل أن تقيم تركيا علاقات معه؛ لأنه في نظر المجتمع الدولي هو مجرم حرب، وأي دولة يثبت تعاملها مع مجرمي الحرب فهي مدانة دوليًا، ومعرضة مستقبلًا للمحاسبة. وهذا لا يشمل بطبيعة الحال روسيا وأمريكا والصين، بسبب امتلاكها لحق النقض الفيتو الذي يغطي على جرائم تلك الدول الكبرى، كما لا يشمل حاليًا إيران بسبب تحالفها الحالي مع عصابة الفيتو الدولي.
الاحتمال الثاني: إجماع الدول الكبرى على تشكيل حكومة ظل للأسد، ثم الإطاحة به، وهذا مستبعد حالياً، في ظل إخفاق داعش في القضاء على المعارضين. وفي حال نجح المجتمع الدولي في القضاء على المعارضين كما فعل في العراق من قبل، فإن العلاقة التركية مع حكومة الظل ستكون علاقة معقدة وغير استراتيجية، وشبيهة إلى حد ما بعلاقتها مع الحكومة العراقية، وهي علاقة ترتكز على الثوابت التالية:
1- عدم التفريط بالمعارضين السوريين في أي مساومة أو ابتزاز سياسي، فهم يمثلون القاعدة الشعبية.
2- استمرار سياسة الأخذ والرد بسبب سلوكيات الـ PYD والـ YPG المتذبذبة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار دون سابق إنذار ودون مبررات منطقية.
3- إقامة علاقات سياسية واقتصادية قدر الإمكان مع تلك الحكومة، لكنها ستكون عرضة لفتور شديد عند محاولة حكومة الظل إسكات بعض المعارضين داخل الأراضي التركية، ولجزر شديد عند مساس الـ PKK السوري – إن صح التعبير – بالأمن القومي التركي.
الاحتمال الثالث: هو احتمال التقسيم ووضع كيانات تحت انتداب الدول المجاورة، وذلك في حال عجز المجتمع الدولي عن الحفاظ على حلفائه الاستراتيجيين من مجرمي الحرب السوريين الحاليين!! وحينئذ ستكون لتركيا حصة خاصة بها على الأرض السورية، وسيحاول المجتمع الدولي عدم السماح لتركيا بتخطيها، وسيغدر المجتمع الدولي بالكيان الكردي كعادته، ويجعله داخل حصة تركيا، وذلك أملًا في إتعاب الحكومة التركية بمشاكله المتوقعة وتذبذباته السياسية!!
وهذا سيجعل العلاقات التركية محدودة جغرافيًا تبعًا للكيان الذي تقيم تركيا علاقات معه، ومحدودة في طبيعتها تبعًا للاتفاق الذي سيتم التوقيع عليه، ومحدودة زمانينًا بمدة بقاء هذه الكيانات التي يستحيل أن تستمر طويلاً على هذه الصورة.
الاحتمال الرابع: إسقاط الأسد وتشكيل حكومة مقبولة دوليا، وفي هذه الحالة لن تكون تلك التشكيلة الحكومية موائمة لمصلحة الشعب السوري على المدى القريب، نظرًا للرغبة الدولية في دعم الحكومات الدكتاتورية فقط. لكن تلك الحكومة ستضطر للنزول على الحد الأدنى من رغبات الشارع السوري، وذلك للحصول على القبول الشعبي الذي يساعدها على تثبيت أركانها وتمكين وجودها على الأرض.
وفي هذه الحالة ستكون العلاقات الاستراتيجية العميقة بين الحكومتين التركية والسورية ضرورية لزيادة مقدار استجابة الحكومة السورية لرغبات شعبها؛ وذلك نظرًا للعمق الاستراتيجي بين الشعبين التركي والسوري، والذي سيجعل أي تغلغل بين الدولتين مفيدًا للشعبين بشكل مباشر أو غير مباشر.
الاحتمال الخامس: حصول معجزة في اللحظات الأخيرة، وهي توحد المعارضة السورية السياسية المتشرذمة، وتقدمهم لإدارة الأمور بشكل مباشر على الأرض، وكذا توحد العسكريين وانقيادهم للقيادة السياسية تلك، ومن ثَمَّ بناء كيان مصغر لدولة مؤسسات منضبطة وعادلة في توزيع الصلاحيات تبعاً للاختصاص. وبالتالي قدرة ذلك الجسم على تحرير أرضه وبناء دولته، وهذا سيضطر العالم كله لإقامة علاقات معه، وليس تركيا وحدها، لكن تركيا ستتميز بعلاقات استراتيجية عميقة ومتينة بسبب العمق الاستراتيجي بين البلدين.
كل ما سبق يدل على عدم وجود وكالة حصرية لكيان أو حزب أو جماعة سورية في إقامة العلاقات السياسية المستقبلية مع تركيا، لا كما تظن بعض الكيانات أنها تتمتع بامتيازات في الدعم التركي السياسي لوصولها هي للسلطة، أو قطع العلاقات مع أي كيان غيرها في حال وصوله للسلطة على ظهر دبابة شرقية أو غربية؛ وذلك لسبب بسيط جدًا، وهو أن العلاقات والاتفاقات الدولية بين الدول تكون بين الحكومتين، ولا تكون مع الجماعات والكيانات مهما كانت قوتها داخل الدولة الأخرى، ولا يمكن توقيع اتفاقات أو إقامة علاقات مع تلك الكيانات إلا بعد أن تثبت وجودها بالوصول إلى السلطة.
وتبقى هنا الأسئلة الواردة في الأذهان:
1- من هو الكيان القادر على إثبات وجوده في عيون الشعب السوري من جهة، وقادر على إدارة اللعبة السياسية الخارجية بشكل جيد من جهة أخرى، والموازنة بين تعارضات النظرة الداخلية والخارجية من جهة ثالثة؟
2- ما مقدار تمثيل هذا الكيان لمتطلبات الشعب الحقيقية وصدقه في ذلك، أم سيبقى منافقًا لشعبه منصاعًا لعدوه؟
3- إذا كان هذا الكيان صادقًا في تلبية مطالب شعبه بشكل متدرج، فهل من المصلحة أن يصل هذا الكيان للسلطة في الحكومة الأولى؟ أم سيؤجل ذلك للحكومة الثانية أو الثالثة ليستثمر إخفاقات الحكومة الأولى في الموازنة بين تلك التعارضات؟
الإجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتحديد مقدار قوة العلاقات التركية السورية المستقبلية من جهة، ومقدار ما يجنيه الشعب السوري من ثورته التي دفع ثمنها ملايين الشهداء والمهجرين والأيتام والأرامل، لتبقى الكرة في ملعب الشعب السوري وحده، فهل سيضعها في الهدف الصحيح؟!!
د. إبراهيم عبد الله سلقيني – ترك برس