“إذا أجاك شي مريض بنص الليل محبحب وسكران، أعطيه شو ما بدو، أحسن ما يعمل لنا شي مشكلة، ما في حدا يدافع عنك هون”… ليست هذه المراكز الطبية سوى انعكاس لنمط حياة كامل فرضته السلطة تقصداً أو إهمالاً داخل هذه المناطق.
سارعت مؤسسات النظام السوري الإعلامية فور خروج الفصائل الإسلامية المعارضة من الريف الدمشقي إلى محافظة إدلب على أثر الضغوط العسكرية والحصار الخانق إلى تكثيف تغطيتها الإعلامية لهذا الريف، وتلفيق مشاهد ومعلومات حول سرعة إعادة تأهيله وعودة فروع مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية والخدمية إلى العمل. ولأن مناطق هذا الريف عادت إلى سيطرة السلطة تباعاً وفي وقت متقارب خلال عام 2018، كانت التغطية الإعلامية في أوجّها، تصول وتجول بين منطقة وأخرى لتسجل حضور وفود من الوزارة الفلانية أو العلانية، أطلقت وعوداً وبيانات حول انصياعها التام “لتوجيهات السيد الرئيس”، لإعادة التأهيل بالسرعة القصوى، وامتلأ المشهد الإعلامي بآليات مجنزرة كبيرة لفتح الطرق وورشات عمالية من هنا وهناك، لإعادة خدمات الكهرباء والماء والصرف الصحي والصحة الطبية، وبدلات وأطقم رسمية. بدا ذلك كمشهد من مسرحية “الرجل العاري والرجل بثياب السهر” للكاتب داريوفو، حين يقوم رجل السهر بتوريط عامل النظافة ويضعه في الواجهة بطقم رسمي لينتهي أمر الأول عارياً والثاني فاقداً لعمله، فلا استفاد وفود البدلات الرسمية منها حين أظهرهم الزمن عراة من الحقيقة، ولا استفاد العمال من الوجاهة المؤسساتية الرسمية والإعلامية لمتابعة عملهم، ولعل وزارة الصحة ومؤسساتها تمثل أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك.
دوما، حرستا، كفربطنا، المليحة، السبينة، بيت سحم، وغيرها الكثير من مناطق ريف دمشق، خرجت من واقع الحصار والتجويع والقصف إلى واقع الإذلال والقمع وتصفية الحسابات والإهمال. فبعد فورة فتح الطرق وتعليق صور ولافتات “الوفاء للقائد بشار الأسد”، لم تنل هذه المناطق من الوعود المقدمة لها إلا ما ندر، وأصبحت مباحة لتجار احتكار السوق بحماية الحواجز الأمنية، بعد التخلي عنها عقب شلال الوعود الحكومية، وليست الخدمات الطبية إلا سلعة في هذا السوق شأنها شأن بقية السلع، فإذا ما أردت الاستثمار طبياً في هذه المناطق، تقع عليك الشروط ذاتها المطبقة على أي استثمار وتمتلك صلاحيات إدارة العمل بما ترغب نفسك.
ليست هذه المراكز الطبية سوى انعكاس لنمط حياة كامل فرضته السلطة تقصداً أو إهمالاً داخل هذه المناطق، بهدف الانتقام وإخضاع من عارضها يوماً.
مركز طبي واحد لكل منطقة، برعاية ضابط الحاجز المسؤول عن مدخل المنطقة بصفته شريكاً، من دون أي دور رسمي لوزارة الصحة، ذلك أن رقابة الوزارة أيضاً شريك غير رسمي عندما تتجاهل وجود هذه المراكز مقابل رشى، فالمراكز لا تخفي نفسها بل على العكس لافتاتها تملأ المنطقة وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي موجودة ونشطة، ما المشكلة إذاً؟ أليس من الأفضل خدمة هذه المناطق طبياً وإن كان من طريق القطاع الخاص؟ هل المشكلة بالاحتكار أم بتقاضي أجور أعلى بكثير لقاء الخدمات المقدمة؟
المشكلة أكبر من ذلك بكثير، إن غض النظر المؤسساتي عن عمل هذه المراكز وحمايتها من سلطة الأمر الواقع في مناطقها جعلاها بعيدة كل البعد مما يسمى خدمات طبية وأقرب إلى استغلال جهل المستفيد- المتضرر بهذه الحالة- من جودة الخدمات المقدمة. فبعد فرص عمل تلقيتها أنا والكثير من زملائي في المستشفى للعمل في مراكز داخل هذه المناطق، تبين أنها تتشابه في كل شيء تقريباً، لا عقود عمل، غير مسموح أن تعرف مالك المركز، الصور المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي ليست للمركز ذاته، المركز يقع على الشارع العام للمنطقة، وهو عبارة عن شقة معاد تأهيلها بشكل جزئي تعاني إما من الرطوبة أو الحشرات أو طوفان المجاري الصحية أو القوارض، لكل مركز علته وجميعها تنفي شروط النظافة والتعقيم المطلوبة في مركز طبي، لا كهرباء لـ23 ساعة من أصل 24، ويعتمد المركز على بطارية ورافع جهد وإضاءة ليدات، أي لا مولدة كهربائية. وبالتالي لا قدرة على تشغيل الصادم الكهربائي للإنعاش، وكذلك جهاز تخطيط القلب وأيضاً الجهاز الحراري لتعقيم الأدوات الجراحية، إذ يتم الاعتماد على تنظيف الأدوات الجراحية بسائل جلي وكلور كما تنظف أطباق الطعام. بذلك تصبح حالة التهاب كبد واحدة تكفي المركز ليكون مقر انطلاق جائحة يوظف المركز طبيب مقيم وحيد في اليوم لجميع الاختصاصات، عليه أن يتظاهر بمعرفة جميع الحالات الواردة إليه والتعامل معها بارتجال، “عالأقل عمله كم فحص واعطيه إبرة مسكن وقلو يروح عالمشفى”، العبارة التي سمعها معظمنا حين سؤالنا عن الحالات التي تواجهنا من خارج اختصاصنا. هناك أسوأ أيضاً ولكن في بعض المراكز وليس جميعها، وهو أن الخدمات الطبية المقدمة هي شبه وهمية، فمثلاً يتم استخدام جهاز الأمواج فوق الصوتية من قبل شخص غير مؤهل، يراهن على جهل المريض بما يحصل له، وذلك لتقاضي رسوم إجراء الفحص فقط أو الاعتماد على تخطيط قلب جاهز يسحب من جهاز التخطيط لإيهام المريض بإجراء الفحص وتقاضي بدل ذلك. لم نصل بعد إلى الأسوأ، وهي حالة مشتركة لجميع هذه المراكز، “إذا أجاك شي مريض بنص الليل محبحب وسكران، أعطيه شو ما بدو، أحسن ما يعمل لنا شي مشكلة، ما في حدا يدافع عنك هون”، للوهلة الأولى تكذِّب ما يقال لك، ثم تفهم أن الحديث يدور حول الأدوية العصبية والنفسية، بمعنى آخر تتحول المؤسسات الطبية إلى مراكز مأجورة للحصول على المخدرات. كل ذلك تكتشفه من مناوبتك الأولى كطبيب في المركز. وهنا يأتي صباح اليوم التالي، لقد وعدت نفسك خلال الليلة الماضية بالرحيل عن هذا المركز من دون عودة فور حلول هذا الصباح، فيأتيك الامتحان الحقيقي، 40 ألف ليرة سورية كحد أدنى في أقل المراكز عملاً، مجموع النسب التي يتقاضاها الطبيب المناوب عن المرضى المراجعين، أتعاب يوم واحد مقابل أتعاب 15 يوم عمل في المستشفى الحكومي، وهو كاف للبعض ليبقى ممثلاً في هذا الفيلم التراجيدي، وغير كاف للبعض الآخر من الذين هموا بالرحيل عن هذه المسالخ البشرية من دون عودة.
ليست هذه المراكز الطبية سوى انعكاس لنمط حياة كامل فرضته السلطة تقصداً أو إهمالاً داخل هذه المناطق، بهدف الانتقام وإخضاع من عارضها يوماً، ولتلقين من يفكر في معارضتها مستقبلاً درساً كبيراً، وما ذلك سوى دليل آخر على وحشية وهمجية متأصلتين في كامل مفاصل حكم هذا النظام.
نقلا عن وكالة درج