كان أحد أسئلة الامتحانات العامة للدراسة الابتدائية في العراق، قبل أكثر من نصف قرن، يوجِب على الطالب الممتحن أن يحدّد مسار رحلةِ بالسيارة من بغداد إلى حلب، ويذكر أسماء المدن التي يمر بها، ويوضح سبب إطلاق تسمية “الشهباء” على المدينة.
كنا، آنذاك، ونحن صغار، نسافر على الورق إلى حلب، ودمشق، والقاهرة، ووهران، ومكة، والقدس، وسواها من مدن العالم العربي، نرسم معالمها، ونعرف موقع كل منها على الخارطة، وطبيعة تضاريسها، وعدد سكانها، وكنا نتعرّف، من خلال ذلك، إلى صلة الأخوة التي تربطنا بأبنائها، فلا نجد فرقاً بيننا وبينهم. ونقل لنا آباؤنا أنهم كانوا يسافرون من بغداد إلى حلب، وكذا من أية مدينة عربية إلى أخرى، من دون أن يطالبهم أحد بجواز سفر أو سمة دخول. كان ذلك في الأيام الجميلة التي سبقت سطوة الأيديولوجيات القامعة التي عصفت بنا رياحها الخبيثة، والتي حوّلت مفردات أبجدية الثقافة القومية التي كنا نتعلمها عبر دروس “الجغرافيا” و”التاريخ” إلى مقاماتٍ تمجّد وطناً، يقام على أكداس الجماجم، وطوفانات الدم، يملكه حاكم أوحد، هو هبة القدر إلينا، له الأمر وعلينا الطاعة.
في تلك الأيام الجميلة، كانت حلب أقرب إلينا من حبل الوريد، نعرفها كما نعرف أنفسنا، وقد تنوع ناسها بين عرب، وأكراد، وأرمن، وشركس، ومسلمين ومسيحيين ويهود، كما تنوعت تضاريسها بين ارتفاع وانخفاض، ومرّت عليها أقوام شكلت فسيفساء عجيبة، واختزنت، على امتداد أرضها الشاسعة، حضارة ثمانية آلاف عام، واكتسبت صفة “الشهباء” لبياض حجارتها، وإن كانت واحدة من مروياتنا تقول إن الصفة جاءت تيمناً ببقرةٍ شهباء، كانت تدرّ الحليب كل صباح لإبراهيم الخليل الذي حط رحاله في المدينة زمناً.
جمعت حلب البيضاء هذه المجد من أطرافه، كتب فيها لامارتين قصيدةً تغزّل فيها بواحدةٍ من حسناواتها، وقع عليها بصره، وهي تدخن النارجيلة جنب بركة ماء، وأقام فيها أرسطو زمناً يستجلي معالمها، ويستقرئ تاريخها، وهي ألهمت أغاثا كريستي كتابة رواية “جريمة في قطار الشرق السريع” في جلستها اليومية في شرفة غرفتها في فندق البارون التاريخي، وسافر إليها البحار في مسرحية شكسبير “ماكبث”، تاركاً زوجته تأكل الكستناء، مشتاقة لعودته.
كانت حلب طوال مراحل تاريخها “في ظل ممدود”، كما وصفها ابن بطوطة في يومياته، علىالرغم من أن عيون الأغراب الطامعين في بلاد الله ظلت عليها، لمكانتها الاستراتيجية، وموقعها الذي يتوسط “طريق الحرير”، فقد رأت غروترود بيل، صانعة الملوك في بلاد الرافدين، فيها “بوابة العالم للدخول إلى آسيا”، ووصفها دارفيو قنصل فرنسا، نهايات القرن السابع عشر، بأنها من أكثر مدن الإمبراطورية العثمانية أهمية. وعلى الرغم من تعرضها لنكبات عدة في تاريخها الحديث، حيث حصد الطاعون، في دورة زمان، كثيرين من أبنائها. وفي دورة زمانٍ أخرى، أودى زلزال بحياة ثلاثين ألفاً من سكانها، ودمر ثلثي مساكنها، لكنها كانت تستعيد عافيتها بعد كل كبوة، حتى أحاقت بها، في حاضرها الماثل، نكبة أكثر هولاً مما سبق، إثر تمرّدها على سياسات البطش والقمع التي مارسها من حكموها في السنوات القريبة، وتجرؤها على إطلاق حركة “بركان حلب” منتصف عام 2011، والتي سقط فيها ناشطون شباب عديدون، مستلهمة في حراكها ذاك قراءات ابنها المفكر عبد الرحمن الكواكبي الذي وصف الاستبداد بأنه “أشد وطأةً من البلاء، وأكثر هولاً من الحريق، وأعظم تخريباً من السيل”، وهو “أصل كل فساد”، ورأى كيف يتسلط الحاكم على بني جلدته، عندما يصبح “عدو الحق، وعدو الحرية وقاتلهما”، عند ذاك تصبح مواجهته قدراً مفروضاً، وهذا ما فعله ويفعله الحلبيون والسوريون بالأمس، وما يفعلونه اليوم وغداً.
على أن ما زاد في ظلم حاكم حلب وطغيانه سعي قوىً نافذة للدخول على خط الصراع، بهدف الاستئثار بالنفوذ في إقليمنا الزاخر بالثروات، وتعمدها إشعال النار في حلب، وفي غير حلب، وإدامة نزف الدم الحلبي والسوري، والصمت العربي المطبق عن الفجيعة الحلبية، إلا من همسةٍ هنا، أو همهمةٍ هناك، أو بيان خجولٍ لبقايا ما كانت تسمى “جامعة الدول العربية”، والتي كما قال السياسي الفلسطيني الراحل أحمد الشقيري مرة أنها لم تعد جامعة، ولا عربية.
وليس لنا، نحن كتاب هذا الزمان وشهود نكباته، سوى أن نستعيد دعاء إبراهيم الخليل، عندما ارتحل عن حلب: “اللهم احفظ حلب، وطيّب ثراها وهواءها وماءها، وحب أبناءها، وارعهم بعين رعايتك، اللهم آمين”.
العربي الجديد – عبد اللطيف السعدون