شدّد أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في أحد خطاباته الأخيرة، على أن مفاوضات الكويت اليمنية وجنيف السورية ستفشل. وحين يخوض نصر الله في هذه الأمور، يتعيّن تصديقه، فهو يمثل مرجعية أساسية للحوثيين الانقلابيين، وحزبه شريك وثيق لنظام دمشق في كل ما يتعلق بمصير السوريين ومستقبل وطنهم، وهو يتحدّث حديث العارف ببواطن الأمور.
والظاهر أن ما أدلى به نصر الله يتعدّى النبوءة أو التوقع إلى البوح بقرار مستتر للمحور الإيراني في المنطقة العربية، فخلال الأيام الماضية، انقلب الحوثيون في مفاوضات الكويت على ما تم الاتفاق عليه من قبل في المفاوضات، وأعادوا الأمور إلى نقطة الصفر، وقادوا التفاوض إلى الانسداد التام، فقد باتوا لا يعترفون إلا بالأمر الواقع الانقلابي، أو بحكومةٍ يشاركون فيها من موقع المقرّر، وقد يسلّمون فيها السلاح الثقيل الذي استولوا عليه من معسكرات الجيش لأنفسهم داخل هذه الحكومة، حسب السيناريوهات، وما يتصل بها من خطط تفاوضية، يتم وضعها في طهران وبيروت الجنوبية.
وحين يقول السيد بدر الحوثي إن جماعته وحزب الله في خندق واحد، فهو لا يضيف جديداً، بل يثبّت ما هو ثابت، فمعركة تكريس الالتحاق بإيران، والتضحية باستقلال الدول، وتصديع المجتمعات، هي معركة واحدة بجبهات متعددة، في صنعاء وبيروت ودمشق وبغداد. معركة ترتدي لبوس المقاومة، مقاومة حق الشعوب في تقرير مصيرها. والحؤول دون أن تؤدي موجة الربيع العربي إلى تمتيع الشعوب بحق الإمساك بمصيرها.
ونستذكر، هنا، أن الحوثيين انقلبوا على مخرجات موجة الربيع في اليمن، وتحالفوا لهذا الغرض مع الرئيس الذي خلعته الثورة اليمنية. وفي سورية، جرى اعتبار وصول الموجة إلى بلد الأمويين على أنه مؤامرةٌ وقع الشعب في شباكها، وعلى الشعب، تبعاً لذلك، أن يرحل عن وطنه، وعلى دول العالم أن تتدبّر أمر استقبال ملايين اللاجئين إليها.
ليس من المصادفة أن تصطدم المفاوضات السورية في جنيف واليمنية في الكويت بجدارٍ صلد، وبصورة متواقتة، فالأمر يتعلق بإرادة الحرب التي يشهرها “محور الممانعة”، وبغير تردد أو هوادة على الشعوب، فالهدنات ووقف إطلاق النار ووقف الأعمال العدائية يجري نقضها بصورة روتينية، مع احتساب هذا النقض على أنه من فنون السياسة والحرب، ومن تدابير التفاوض الميداني.
أما استهداف المدنيين والمرافق المدنية فهو بدوره من أفانين التغليب، حتى لو كان ذلك يعني العودة إلى منطق القرون الوسطى، فالعبرة في الخواتيم، ومحور الممانعة ذو نزعة عملية صرفة، ويتجه نحو هدفه كالسهم، ولا يتوقف عند تفاصيل هامشية، مثل حق البشر في الحياة والكرامة، فالبشر الملتحقون بهذا المحور وحدهم من يستحقون أن ينعموا بالحياة.
وإذا كان الفتك بالمدنيين في تعز أو حلب يؤدي إلى تحسين ميزان القوى لمصلحة محور الممانعة، فلن يكون هناك تردّد في الإقدام على ذلك، وهو ما يكشف عنه أرشيف ثقيل لسنوات “الجهاد” الأخيرة في اليمن وسورية. وأبعد من ذلك، باتت إبادة البشر تندرج في سياق مكافحة الإرهاب، ذلك أن محور الممانعة يتقن لغة العصر، وهذه اللغة تقضي بترديد عبارة مكافحة الإرهاب على مدار الساعة، وبلا توقف، بما في ذلك في أثناء ارتكاب المجازر.
في الحالتين، اليمنية والسورية، تم القفز عن مرجعيات التفاوض. القرار 2216 المتعلق باليمن والقرار 2254 الخاص بسورية. وهذا القفز هو أفضل وصفةٍ لضمان الفشل الذي يثق به السيد نصر الله مصيراً محتوماً للتفاوض. هذا على الرغم من أن القافزين يؤمنون بالحل السياسي، كما يهذرون لوسائل الإعلام.
وبما أن الفشل أخذ يلقي بظلاله، فقد دخلت مفاوضات الكويت في نفقٍ معتم، بعدما بدا الحوثيون وكأنهم يسخرون من أطراف التفاوض، ومن الرعاية الأممية، ومن الاستضافة الكويتية. أما محادثات جنيف فهي متوقفة إلى إشعار آخر، والمهلة المتاحة والفسيحة مخصصة لموسكو، لكي ترعى الهدنة، ولكي تنقض الهدنة، وتنقضّ عليها في الوقت نفسه، بالتنسيق مع طهران، ومع النظام. وبشبه تواطؤ من وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وذلك من أجل تحقيق نتائج ميدانية تدفع المعارضة إلى اليأس والاستسلام، وتكافئ النظام على ما جناه بحق شعبه.
ليس غريباً أن يتنبأ أمين عام حزب الله بفشل المفاوضات، وأن يبوح بهذا القرار المستتر. المستغرب كان لو أنه توقّع نجاحها، أو بعض التوفيق لها، أو تعهد بالعمل، من جهته، على نجاحها، فالتفاوض والمخارج السلمية العادلة يناقض خيار حربٍ مديدةٍ، لا محرّمات فيها، لتثبيت استتباعٍ أبدي لطهران، ومن دون أدنى فرصة لأحد للمعارضة، أو الاعتراض، وبما يغلق أبواب المستقبل أمام اليمنيين والسوريين.
هذه الحرب التي تُحرم فيها شعوب من أبسط حقوقها توصف بأنها ضد الرجعية الخليجية، وكذلك ضد أميركا وإسرائيل. والانتصار على الخصوم والأعداء يتطلب إفراغ سورية من شعبها، وشن حربٍ طائفيةٍ استئصالية على الأكثرية، وتهديم حواضر تاريخية ومدن كاملة. ولمّا أنهم جزء من محور الممانعة، فإنه يجب أن يتحكّم الحوثيون الأقلية في اليمن بأغلبية اليمنيين، بسلاح إيران وأموالها وخبرائها ومدربيها. وبذلك، تُهزم أميركا شر هزيمة.
من الواضح، في ضوء هذا التصعيد، أن المحور الإيراني استقرّ على قراءةٍ مفادها بأن الوضع الدولي مواتٍ لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، بما يخدم تمدّد إيران، ويعيد هندسة المجتمعات العربية، وفق متطلبات التغليب الطائفي، وإقصاء السنّة، كلما أمكن ذلك، عن الصدارة السياسية (السيد نصر الله حذّر مقتدى الصدر قبل أسابيع من حكومات إصلاحية بديلة مقترحة في بغداد، يتولى فيها سياسيون عراقيون سنّة وزارات سيادية في بلدهم، وقد تم الضغط على الصدر من السيد نصرالله، كما من قاسم سليماني، لفك حصاره عن المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية).
والطرف الأميركي غير معني سوى بدعم الاحتلال الإسرائيلي ومكافحة داعش، والأطراف الأوروبية لا تملك أن تفعل شيئاً ذا بال، بغير تغطية أميركية، وروسيا حليف موثوق “يخوض معنا حربنا كتفاً إلى كتف”، ويهمّ الكرملين تثبيت وجوده في سورية، وفي المتوسط، وفي حصر وجود النفوذين، الأميركي والتركي، ومجلس الأمن، إن لم يكن مشلولاً، فإنه يسهل شلّه عند الاقتضاء، فالصين، وإن بدت سلبية مع الجميع، فإنها تقف أوتوماتيكياً مع روسيا، وليست لها سياسة خاصة في الشرق الأوسط، وجُلّ مرادها معاكسة واشنطن، أياً كانت النتائج المترتبة على ذلك.
إذن، وبناء على ما تقدم، لا حاجة للإقدام على “تنازلاتٍ” في الكويت واليمن، بل ولا حاجة للمفاوضات من أساسها، ولا تملك السعودية، وفق هذه التقديرات، أن تخوض حرباً مفتوحةً، لا سقف زمنيا لها، ومقابل أي عدد يسقط من الحوثيين، أو من أنصار علي عبدالله صالح، فإنه يمكن الفتك بأعداد مقابلة من المدنيين في أي مكان، على يد الانقلابيين، فيبقى ميزان القوى، والحالة هذه، على حاله.
العربي الجديد – محمد الريماوي