مع رمضان 2016 دخلت فرنسا على الخط في سوريا بإرسال قوات برية، ومن قبل سبقتها بريطانيا، أما الخبراء من إيران وروسيا فموجودون بطلب من الحكومة الرسمية المنتخبة من الشعب! فهل هي مؤشرات تفكك الدولة السورية وتوزيع الغنيمة؟ أم هي المخاض العسير للخروج من نفق الاستبداد إلى فضاء الحرية؟
اطلعت على دراسة تقول إن الثورات السلمية تنتهي في حدود سنتين ونصف، أما المسلحة فتستمر حوالي تسع سنين وبكلفة باهظة، كي تنتصر إرادة الشعوب في النهاية، لكن مع مخلفات قاسية بسبب وجود مَن اعتادوا على حمل السلاح، وحل مشاكلهم بالسلاح، مما يأخذ علاجه عدة سنوات لاحقة، فتلك هي ضريبة التسلح واعتماد القوة في تغيير الأوضاع.
رؤية بوتين وهو يستقبل نتنياهو في رمضان 1437هـ بترحيب بالغ، تذكرني بالحديث النبوي: توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير لكنكم غثاء كغثاء السيل؟ ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت.
المحنة ليست فقط في سوريا، بل هو تسونامي يتدفق في كل مفاصل العالم العربي، والكثير يحاول لجمه بدون فائدة، وفي سوريا سلط بشار الأسد كل آلته الحربية على المعارضة وظن أنه سحق الثورة، لكن الشدائد تفعل عكس ما يريد صاحبها، فشجرة الثورة كلما قلموها، ازدادت نماءً، وتطاولت أغصانها واخضرت أوراقها. سنة الله في خلقه وهلك المبطلون.
علينا رؤية الرصيد ليس في اقتتال الفصائل وتناحر القوى، بل القوة الروحية التي تتدفق في شرايين الأمة جراء ما يحدث، وسيخبرنا التاريخ بالحقيقة؛ فالكون لم يجر تركيبه عبثاً، ولم يخلق بالباطل، والزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
اعتبر المؤرخ البريطاني “توينبي” أن للمشقة فضائل، وأن الحضارات تنبعث ليس من ظروف الراحة والدعة؛ بل وسط التحدي، ورأى الفيلسوف الفرنسي “باسكال” أن الأفكار المبدعة تولد من رحم المعاناة، وقد توصل إلى اكتشاف المنحنى الهندسي في إحدى ليالي الألم والمرض الممض، وحاول البعض إراحة الدودة وهي تصارع سجف الشرنقة للخروج، فصعق عندما رآها تخرج مرتاحة بيسر وسهولة، لكنها فراشة لا تقوى على الطيران؛ فالتحدي والمعاناة هي التي تشكل عندها أجنحة تمنحها قدرة التحليق، وفي لحظات الانقلاب الجنيني وانهيار توازن الرحم الكامل لاستقبال الحياة، يولد الإنسان في كبد، عبر تقلصات الرحم وألم الأم.
وقد اعتبر عالم النفس البريطاني “هادفيلد” أن المحرض الرئيسي للإرادة هو “المثل الأعلى”، فهو يستنفر الطاقة لمستوى أعلى من حضورها العادي، واعتبر القرآن أن الابتلاء سنة لا محيص عنها لعباده الصالحين، كأداة صقل وتنظيف أخلاقي، واستنفار للطاقة، وصهر للجماعة في نار المحنة، وبذلك ستخرج سوريا من محنة “الربيع العربي” أصلب عوداً وستنتصر ثورتها من رحم المعاناة والدموع.
إن المحنة تشكل ضرورة في الحياة؛ فحتى يبقى السائق يقظاً لابد له من خضة بين الحين والآخر، ويصبح الفشل للجراح في بعض العمليات الجراحية درساً قاسياً لمراجعة الذات، وتدفع بعض الهزائم العسكرية لقائد محنك إلى إعادة حساباته دوماً في إدارة دفة الصراع، وتصبح الهزات الخطيرة أداة ممتازة لتنقية وتطهير الجماعة: “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم”.
المحنة ضرورية أحياناً، للفرد والجماعة؛ فالإنسان خلق في “كَبَد”، فهو لا ينضج ولا يتطهر دون دروس المعاناة.
الاتحاد