من بعدها نغزوهم ولا يغزوننا أبدا…. ربما تعتبر هذه العبارة من أهم العبارات على لسانِ أبي بكر البغدادي، أو أحدِ كبار معاونيه، بعد كل خسارةٍ يتلقاها تنظيم داعش، بهدف شحذ همم الأتباع، وفتحِ نافذة لهم من الغيب العاجل بأنّ نصراً مبيناً بانتظارهم، خصوصاً أنّ تلك العبارات وردت في الآثار النبوية التي تتكلم عن علامات الساعة، فيسقطُ البغدادي مقصودَها عليه وعلى أتباعه، وهذا تماماً ما يطابق فلسفةَ ميليشيات النظامين، السوري والعراقي، الطائفية في استنطاق الغيب، وتجسيده بدعوى أنها عساكر المهدي المتأهب للخروجِ، ولم يبقَ بينهُ وبين خروجه إلا مخاضٌ من الدمِ يسفكونه من دماءِ عدوهم. لذلك، انهمك الفريقان، داعش وشركاؤه في الميتافيزيقية، في نبش صفحات التاريخِ، للبحث عن النصوص التي تفسّر لهم الغيب، وترضي نفوسهم الدمويّة، ليفتحوا بذلك فضاءً من الحروب وشلالاتٍ من الدماء لا تتوقّف، حتى يكشّر الزمن التخيّليّ المنتظر عن أنيابه، فيورثهم الأرضَ، خالصةً لهم من دون الناسِ .
اقترب الصدام المدوّي والحادث الجلل الذي سيبقى يؤرّق الذاكرة، كلما أزاحت الرياحُ غبار المعركة عن رسومٍ دارسة، تخبّئ تحتها آلاف الجثث الممهورة بخاتمِ الخلافة والولاية في العراق وسورية، حيث يعتركُ مُلّاكُ شيفرةَ الزمن المقبل، كما يزعمون، فمن الفلوجة العراقية إلى منبجِ السورية، تتحركُ رحى الحرب متشوقةً للطحن الطائفي، وبين طهران وقندهار منافسة في تعبيد الطرقِ أمام منتظري الغيب، كل على حسبِ هواه يهندس الطرق.
عربٌ وكردٌ، متشيّعون وشيعة، سنّة وملاحدةٌ، بعثيون قدامى وجدد، مرضى ومعاقون وحالمون وحاقدون وهاربون من ظلال أشجارِ الحضارة إلى جغرافيا الهولوكوست الشرقي، كلهم أشهروا سيوفهم، ليقتطع الحبل السرّي بينه وبين المشيمة الأرض، لا لشيءٍ فقط لأنّ شهوة الدمِ طغتْ على الفكر والدين والوطن، فأفقدتهم إنسانية الرعشةِ أمام دموع أمٍّ أو ثغرِ طفلٍ يبسَ قبلَ أنْ يزهر الحلم الوردي بمستقبل أجمل، وأي مستقبلٍ لهذه الأرض، وكلٌّ يسعى إلى استملاكها بهوسهِ ومظلوميته السردية.
لا شيء أصعب من ضياع الهوية، في لحظةِ التصادم بين زمنين مختلفين، أحدهما واقعيٌّ محمّلٌ بالمأساةِ المنظورة، والآخر خياليٌّ غيبيّ يغيّب الواقع خلف أستار النبوءات، ومن منا لم يفقدْ هويتهُ، وهو يرى الربيع العربي وأحلامنا بوطن جميل تتحول إلى كابوس مخيف، ترتسمُ ملامحهُ على الراياتِ الطائفية الممتدة من الفلوجةِ إلى شرق حلب، وتنبعثُ همهماته من طبول الحرب التترية، لكنها حربٌ بلا هولاكو ولا جنود جاءوا من الشرقِ، بل هم أبناء هذه الأرض، إنْ لم يكونوا كلّهم فمعظمهم بكل تأكيد، وهذا ما يجعل النصر هزيمةً في الوقت نفسه.
صحيحٌ أنّ السنوات الخمس من عمر الثورات العربية كانتْ مخاضاً صعباً، دمّر المستبدون فيه كل شيء في الأرض، حتى الإنسان دمّروه، لكنّ هذه الأيام ستكون أقسى ما يمكن تصوره، إذْ ثمة أحداث تمهّد لوقوع الكارثة الكبرى، المتمثلة في الصدام بين داعش والميليشيات العابرة للحدود، فمنذ كثف الروس قصفهم حلب وخروج المناطق الشمالية لحلب عن سيطرة القوى الثورية، وصولاً إلى محاصرة داعش لمارع وعزلها كلياً عن أعزاز، لم يعدْ هناك قوة ثورية فاعلة في مسرح الأحداث، وخصوصاً أنّ دمشق وريفها تشهد صدامات حادة بين فصائل المعارضة ضمن أرخبيلاتٍ بالأصل هي مغلّقة ومشلولة، إذاً كل ثقل المعارك سيتركّز على ما تبقى من دولةِ داعش التي لن تتوانى عن إفناء كل شيء، قبل أنْ تفنى وتحرقُ معها خصومها المتطرفين.
حربٌ ستطول أيامها، وتطال شظايا لعنتها الأجيال المقبلة، من دون أنْ تصفو لغالبٍ في وسعه أنْ يستقر فيها في خضمّ كوابيس الدم والضياع والتغرّب النفسي والتفسّخ الفكري، كارثةٌ لن تستثني أي دولة في الشرقِ كله، إنْ لم تسارع دول المنطقة بدعم مشروع وطني، يرسّخ أسس ثورات الشعوب، لأنّ الثورات إنْ لم تحقق أهدافها لنْ تخلّف بديلاً أحادياً، ذا أركانٍ طائفية يوافق مصالح داعميه ومنفّذيه، فضلاً عن عدميةِ الحياة على أنقاض نصف ثورة.
العربي الجديد