كم هو شعور مؤلم أن تبحث بين أشلاء الجثث المكومة داخل أكياس والملقاة على قارعة طريق المشفى عن أحد أفراد عائلتك، وتردد في قلبك “يارب مايكون من بيناتن”، لتصل إلى آخر جثة وأنت على أمل ألا يكون من تبحث عنه.
تلك كانت حالة مياس “17” عاما، بعد أن تأخر والدها عن موعد عودته إلى المنزل، حيث ارتكب الطيران الروسي مجزرة مروعة في أحد أسواق مدينة ادلب أمس الأربعاء وراح ضحيتها مايقارب 20 شهيدا وعشرات الجرحى بعضهم بحال خطرة، بالإضافة لمفقودين لم يتم العثور عليهم بعد.
خرجت مياس برفقة صديقتها للبحث عنه وقلبها يرتجف من الخوف، فوالدتها وأخواتها في حمص، وهي بقيت برفقة والدها كي لاتتركه بمفرده، وصلت لمشفى الهلال وأخذت تبحث بين الجثث لتصل إلى آخر واحدة فكشفت عنها لتصدم به وقد شوهت الشظايا والدماء وجهه الجميل، ومن هول الصدمة رفضت نفسها أن تعترف بموته فصرخت وقالت ” لا لا هاد مو بابا بابا عايش أنا متأكدة مستحيل يتركني لحالي هوي بحبني”.
لم تستوعب مياس ماحدث وعيناها أبت أن تذرف دمعة واحدة، فما شاهدته من دماء وأشلاء وبقايا إنسان جعلتها تغيب عن هذا العالم الذي خلا من الإنسانية والرحمة، وانعدمت فيه أدنى مقومات الحياة.
لعل ماحدث في مدينة ادلب أمس يصعب على العقل تصديقه وتعجز الكلمات عن وصفه، فقد كانت خطة محكمة من الطيران الحاقد، غاب يومين عن سماء المدينة ليعطي شيئا من الأمان للمدنيين بعد أن التزموا منازلهم أكثر من أسبوع اتقاء لشره، ويعودوا ويفتحوا محالهم التجارية وتعود الحركة قليلا للأسواق لينفذ غضبه عليهم ويحصد أرواح الأبرياء.
أخذت مياس جثة والدها برفقة أهل صديقتها ودفنوه بشكل سريع خشية من الطيران الذي لم يفارق سماء مدينتهم، وهي تتكلم بصوت مشحون بالندم:” كلو بسببي ياريتني ماخليتك يابابا تنزل عالسوق الحق علي كان لازم أمنعك”.
رغم لومها لنفسها إلا أن القدر شاء أن يختاره، وأي موت أشرف من ذلك، فقد كان يؤدي صلواته الخمس في الجامع القريب من منزلهم، خرج منه بعد صلاة الظهر ليأخذ نصيبه ويستشهد وتغسل دماءه الطاهرة قلب كل حاقد تجرد من الإنسانية.
يصف محمد من فرق الدفاع المدني هول المجزرة وهو يسعف من وافاه الحظ بالبقاء على قيد الحياة:” أين سيهرب المجرم من دعاء أمهاتنا الثكالى؟، أين سيهرب من دموع اليتامى، عشرون شهيدا وربما أكثر، لاتقلقوا يا أبناء مدينتي الخضراء فرب السماء أقوى من طائراتهم ومهما خسرنا لابد أن يأتي يوم ويأخذ لكم حقكم ممن أبكاكم وأوجع قلوبكم، اليوم وجعنا واحد وآلامنا واحدة”.
جلست مياس قرب قبر والدها عاجزة عن البكاء وهي تخبر صديقتها:” بابا وصاني إذا متت ما أبكي لأنو حرام نبكي عالشهيد، أنا عرفانة أنو بابا رح يكون بالجنة مرتاح، وهوي بمكان حلو كتير مافي طيران ولاخوف، هوي عند أرحم الراحمين”.
المركز الصحفي السوري ـ سماح الخالد