اجتمع السوريون أحمد وعمر وزياد في مدينة إسطنبول، كل منهم قادم من مدينة تركية قضى فيها وقتا طويلا عانى وضحى لتوفير حياة كريمة، بعد لجوئهم إلى تركيا منذ قرابة 8 سنوات.
أحمد كان يسكن في أحد الأحياء الشعبية في إسطنبول، كانت شقته عبارة عن مستودع للفحم والحطب، حولها صاحبها إلى سكن متواضع لكثرة العوائل السورية الباحثة عن مأوى لها، كان أحمد يخرج قبل بزوغ الشمس إلى عمله الذي يبعد حوالي ساعة ونصف متنقلا بين وسائل النقل.
ليعود بعد حلول الليل متعبا منهكا وعلامات الوهن بادية على جسمه. تقول الزوجة ” أحمد الله يخليك عم تطلع من وجه الصبح وماتجي لليل و كل يوم نفس الحالة هاي موعيشة حتى انا تعبت ولادك يلي عم يكبروا يوم ورا يوم ماعم تشوفن ولا تسمع منن كلمة بابا ولا شو يفرحهن و شو يوجعهن” ، تقول مستطردة.
يرد أحمد ” شو أعمل يامرة شوفت عينك فوق ماعم اشتغل وارجع تلفان ماعم لحق اجار البيت يلي محسوب علينا بيت ولا فواتير المي و الكهربا خليها على الله متلنا متل هالناس عايشين ” .
لم يتوقع أحمد و عائلته في سوريا ما تخطط لهم الأيام لتذيقهم مرارة اللجوء والقسوة في الحياة ولتأكل من أجسادهم و ابتسامة أطفالهم بأن يركض طيلة اليوم كما يقال من أجل تأمين قوت اليوم فقط وغدا يخلق الله ما يشاء .
لم تكن العائلة الوحيدة التي تعيش ظروف اللجوء ومرارة العيش، بل جميع السوريين الذين توزعوا في الورش و المعامل التي أخذت تأكل من أيامهم و أعمارهم حرمتهم لحظات السعادة و الدفء مع أطفالهم!
في شهر مارس عام 2019 أعلنت تركيا فتح حدودها أمام اللاجئين من جهة اليونان نتيجة للتوتر السياسي بين البلدين وعدم قدرة تركيا على تحمل اللاجئين البالغ عددهم حوالي 5 مليون لاجئ معظمهم سوريون .
نشطت حركة التهريب من جديد وذاع الخبر في كل مكان، فتوافد آلاف اللاجئين على الحدود الفاصلة، هنا قرر أحمد مع غيره الوصول إلى أوروبا وتأمين حياة كريمة.
لم توافقه زوجته بالبداية ” احمد شو جنيت شلون بدك تروح و تتركنا لحالنا وهذول الصغار موحرام عليك رجلي على رجلك” .
رد أحمد بصوت مرتفع: ” هذا الطريق زلم عم تروح فيه شلون نسوان وولاد ، بعدين بس اصل رح اعمل لم شمل وهيك تجوا بالطيارة هيك الناس عم تساوي . وحاول التهديء من روع زوجته وخوفها وبكائها الشديد . اقترب منها و ضمها وقال لها “والله غصب عني ماضل غير هالاحتمال اعمله الحياة صارت جحيم “، البكاء هو الثاني قد علا في المكان لا يعلو شيء عليه سوى مشاعر الحزن بفراق قد يطول جدا.
ملأت مجموعات اللاجئين وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار الطريق في كيفية عبور تركيا واليونان ودول البلقان وصولا إلى النمسا، إذ تستغرق الرحلة لمن لا يملك نفقات المهربين المرتفعة حوالي 3 أشهر يقضيها سيرا على الأقدام واستخدام وسائل النقل في أقل الأحيان.
تعرف أحمد على شبين سوريين من تلك المجموعات كانت متجهة لنفس الغاية. أخذ الشباب أرقام بعضهم البعض و نسقوا و خططوا لرحلة حياة جديدة، محفوفة بالمخاطر قد تصل إلى الموت!!
حددوا مكانا للقاء بينهم في إحدى حدائق المدينة العتيقة بعيدا عن زحمة الناس و ضوضاء العربات و السيارات.
خرج أحمد باكرا معانقا زوجته وعلامات الأسى في عينيهما. قبّل أولاده الصغار وهم نيام وتمعن النظر بشدة إلى وجوههم البريئة متحسسا حرارة أجسادهم ورائحتهم متسائلا هل نلتقي من جديد هل سأضمكم إلى صدري مرة أخرى!!
زمن قصير يصل عمر صباحا، قادما من إزمير الساحلية، وكان في انتظار البقية، كان يترقب و ينظر بشدة كبيرة لكل من يدخل باب الحديقة عله يكون أحمد او زياد.
مضت ساعتان فأتى زياد من مدينة قونيا الكبيرة وسط تركيا وبعده بقليل وصل أحمد، اكتمل الفريق ” يقول عمر “، الذي كان في ريعان الشباب والفتوة، تصافحوا جميعا وأخذوا استراحة قليلة.
اتفق الثلاثة على شراء الحاجيات الضرورية من حقائب و أحذية تناسب صعود الجبال وطعام من المعلبات و التمر لرحلة العمر كما يقول أحمد بابتسامة يعلوها الأمل، سجلوا قبل ذلك على ورقة كل ما يحتاجون شراءه من السوق الكبير المعروف في إسطنبول لوجود كافة الأنواع وأخذ الملائم منها للجميع و لأسعاره الرخيصة.
قبل ساعة الصفر ترك كل واحد منهم في مخيلته صورة لأحبته أو زوجته أو أطفاله كانوا قد تواصلوا مع سائق تكسي يعمل على نقل المهاجرين بطريقة غير شرعية إلى منطقة أدرنة على أن يأتيهم في مكان حددوه له في قلب المدينة.
أنهى الشباب شراء كل شيء لم يبق لهم سوى تفعيل خطوط هواتفهم وتعبئة باقة الأنترنيت والاتصال الدولي كي يبقوا متواصلين مع أهاليهم.
في تلك اللحظات أخذ الثلاثة جولة في أرجاء المدينة العتيقة التي يعرفها أحمد كأنهم سياح قد لا يحمل القدر لهم مرة أخرى إتاحة مثل هذه الفرصة.
دخلت إلى قلوبهم الطمأنينة والهدوء بسماع أصوات المآذن من جميع المساجد المحيطة وكل منهم في قرارة قلبه وعقله يدعو أن يوفقهم الله ويحالفهم الحظ للوصول إلى تلك البلاد البعيدة أو كما يسميها زياد بلاد ما وراء البحار.
لم تزل أخبار الشباب الثلاثة غير معلومة هل وصلوا أم لا، ولكن المؤكد أن أولادهم وزوجاتهم
ينتظرونهم بفارغ الصبر!
قصة خبرية/طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع