بينما كان العالم بأسره تحت وقع صدمة الجريمة الفظيعة التي أقدم عليها الشاب التونسي في نيس في 14-7-2016، تواردت الأنباء عن محاولة انقلابية في تركيا لم يُكتب لها النجاح، لأسباب عدة، بعضها بات معروفاً، وبعضها الآخر يندرج في نطاق الأسئلة التي ما زالت تنتظر الإجابات المقنعة.
لقد قيل الكثير، وكُتب الكثير حول تفصيلات الحدثين الكبيرين، وقُدم العديد من التحليلات والتخمينات والتوقعات، ومن المؤكد أننا سنرى في المستقبل مزيداً من المقاربات والتحليلات، لا سيما بالنسبة إلى الموضوع التركي الذي يظل الأكثر تأثيراً في أمن منطقتنا واستقرارها.
لكن الجانب الأخطر في الحدثين المشار إليهما يتمثّل في المواقف العامة والأحكام المسبقة التي تشكلّت، وستتشكّل ضمن المجتمعات الغربية من جهة، والمجتمعات الإسلامية – العربية من جهة ثانية.
ففي الغرب، باتت الإسلاموفوبيا بصيغها العلنية والمقنّعة هي المهيمنة في صورة عامة، ما عدا استثناءات لا تخرج عن نطاق النخب. هذا في حين أن الشعور العام في المجتمعات الإسلامية – العربية يتمحور حول الشعور باستهداف الإسلام بالدرجة الأولى، وأننا نعيش المرحلة الثانية من نظرية هنتنغتون. أما الهدف النهائي لكل ما يجري فهو “شيطنة الإسلام” بكل تياراته، تمهيداً لاستئصاله كعقيدة مؤثرة تماماً كما حدث مع الشيوعية.
وما يُستشف من المعطيات والتوجهات الحالية سواء في الغرب أم في المجتمعات الإسلامية – العربية، أن ظاهرة الإسلاموفوبيا ستتأصل أكثر فأكثر، وستختلط مع النزعات القومية العنصرية، لتغدو موجهاً رئيساً من موجهات السياسات الداخلية، والحسابات الانتخابية في الغرب. أما في المجتمعات الإسلامية – العربية، فالمرجّح أننا سنشهد مزيداً من التصاعد في وتيرة التشدّد على مستوى الأفراد والجماعات، وذلك نتيجة حالة الإحباط، والشعور بانسداد الآفاق على جميع المستويات.
لقد تفاءلت شعوبنا خيراً مع بدايات الربيع العربي، واعتقدت من موقع حسن النيّة أن الدول الغربية قررت أخيراً رفع الغطاء عن الأنظمة الاستبدادية “الجمهورية” الفاسدة التي أوصلت مجتمعاتها على مدى عقود من حكمها المافيوي إلى حالة الإفلاس المادي والروحي، وفقدان الأمل في مختلف الاتجاهات. لقد اعتقدنا جميعاً أن التغيير المنشود قادم، وأن ملامح مرحلة جديدة من العلاقة بين الغرب والشرق تتبلور في الأفق، مرحلة تستمد قسماتها من تلك الوعود التبشيرية التي جاءت في خطابي الرئيس أوباما في البرلمان التركي (ربيع 2009) وفي جامعة القاهرة (صيف 2009)، مرحلة أساسها الحوار والتفاهم، واحترام الخصوصيات، والمصالح المشتركة.
لكن الذي حصل كان العكس تماماً، فقد تُركت الشعوب لمصيرها، ولم تدعم القوى الديموقراطية كما ينبغي، وحصلت القوى المستبدة على كل أنواع الدعم من حلفائها، وأصبحت الساحة مفتوحة أمام القوى المتشددة بتياراتها المختلفة التي ظهرت بناء على مخططات مبرمجة سلفاً. ومع تفاعل الأحداث، تمكّنت هذه القوى من الهيمنة، وإزاحة الجميع، ما عزّز مواقع قوى الثورة المضادة، فتمكنت من إعادة ترتيب أوراقها، والتكيّف مع طبيعة المهام الجديدة ومقتضياتها.
ذلك كله يدفع بالمرء نحو التساؤل عن مشروع يتمفصل حول وجود خطة منذ البداية لإيصال الوضع إلى ما هو عليه راهناً. وما يضفي المزيد من المشروعية على هذا التساؤل وجود سلسلة من الأسئلة الفرعية التي ما زالت تنتظر إجابات يقبلها المنطق.
لسنا ميّالين إلى تفسير كل ما جرى ويجري بعقلية المؤامرة. لكن ما نراه أن المعالجات التي تمت، والتدخلات المحسوبة التي حصلت، أدّت إلى ارتفاع وتيرة التشدد. وما ساهم في تعقد الوضع أكثر اعتماد سياسة غض النظر في مواجهة التدخلات العدوانية للنظام الإيراني في العديد من الدول العربية، بخاصة في العراق وسورية، وتجاهل جرائم القوى المحسوبة على هذا النظام، ما أعطى انطباعاً مفاده أن استراتيجية الخلط بين المذهبي والسياسي التي تُعد محور السياسة الإيرانية، قد تم التكيّف معها بهذه الدرجة أو تلك، في إطار نهج زعزعة الاستقرار الإقليمي، تمهيداً لاعتماد معادلات جديدة تتناسب مع المهام والاهتمامات الجديدة.
فتركيا، بصرف النظر عن ملاحظاتنا حول سياساتها التفصيلية، التي كانت تعتبر النموذج الناجح في العالم الإسلامي من جهة إمكان التعايش بين الإسلام المعتدل والنظام السياسي العلماني على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، تعرضت للكثير من الضغوط والمضايقات، ولم تحصل على الدعم المطلوب في أوقات الشدة من حلفائها الأوروبيين والأميركيين، بخاصة ضمن حلف الناتو، ما أكد مراراً وجود رغبة في تطويع سلوكيتها، وتوجهاتها، وكبح طموحاتها، ليتم وضعها على السكة المطلوبة. أما مصر، فباتت بكل أسف خارج نطاق التأثير الفاعل إقليمياً نتيجة أوضاعها الداخلية، وانشغالها بقضاياها الخاصة الداخلية الكبرى.
وقد استفادت إيران كثيراً من هذه الوضعية، بل كانت في الكثير من الأحيان الأداة المنفذة سواء بقواها الذاتية، أم من خلال أذرعها الميليشياوية بأسمائها المختلفة.
العلاقة بين المجتمعات الإسلامية – العربية من جهة، والمجتمعات الغربية من جهة ثانية، ليست على ما يُرام، بل هي مرشحة للمزيد من التوتّر والتشنج والصدام، وكل ذلك ستكون له تبعات سلبية كبرى في الجانبين.
وقد أثبتت التجارب أن عقلية الوصاية والفرض ومحاولات هندسة الأوضاع لتأتي موائمة لتوجهات الاستراتيجيات والمصالح الغربية قد أخفقت، وأن الديكتاتوريات التي كانت تحكم بالحديد والنار على مدى عقود فقدت زمام المبادرة، وباتت عبئاً ثقيلاً حتى بالنسبة إلى رعاتها.
كما أن محاولة اختزال كل الانهيارات التي تشهدها دول المنطقة بالإرهاب، وتجاهل الاستبداد والفساد والإفساد، هي الأخرى قاصرة كسيحة، تؤكد أن القائمين عليها لم يقرروا بعد مواجهة المشكلات على حقيقتها، لمعالجتها بالأسلوب الأمثل الذي من شأنه أن يحقق الاستقرار، كما يخفّف حدة التوتر ضمن الجاليات المسلمة في البلدان الغربية، ويقطع الطريق على التوجهات العنصرية لدى العديد من القوى السياسية الصاعدة في الغرب، وهي القوى التي تريد مواجهة التطرف بالتطرف المضاد، الأمر الذي سيدفع بالجميع حو حلقة شيطانية مفرغة لا نهاية لها.
الوضع معقد للغاية، وينذر بأخطار كبرى آنية ومستقبلية، ولن تُعالج بالمجاملات الخاوية، أو البيانات العامة المبهمة. ما تحتاجه منطقتنا قيادات وطنية مدعومة بشعوبها أولاً، تأخذ على عاتقها مسؤولية النهوض بمجتمعاتها وتفضّل دائماً المصلحة العامة.
أما مسؤولية الغرب فتتجسّد بدعم هذه القيادات (وذلك سيكون في مصلحة الغرب في المقام الأول) والدخول معها في حوار جاد على قاعدة الاحترام المتبادل لإيجاد الحلول المفيدة للجانبين. أما الإصرار على منطق الفرض والإرغام، فمؤداه المزيد من التشدد، والمزيد من العنف والتفتّت والضياع والإرهاب.
الحياة