القرار يفتح المجال أمام كافة سبل دعم القدس والمقدسيين من الجوار العربي والعمق الإسلامي والمحيط الإنساني، طالما أن القضية صارت بالتعريف الأممي قضية شعب تحت احتلال جائر.
قوّة الدول تكمن في تحويل القرارات الرمزية وشبه التوافق الدولي والإجماع الإقليمي إلى خطوات إجرائية وتطبيقية على أرض الواقع، ليستحيل المعنوي أمرا مكرسا بفضل روح الميثاقية المتجسّدة فيه والبرامج التنفيذية المعتمدة لتجسيمه.
ويكمن ضعف الدول في المقابل في عدم توظيف القوة الناعمة تكريسا لحقوق شرعية وتاريخية عبر إضاعة الفرص وإهدار اللحظة الزمنية الفارقة التي تتحول فيها معظم العواصم إلى “كتلة تاريخية صماء” ضد قرار أرعن، وتأييدا للحد الأدنى من الحقوق القانونية الدولية المكتسبة بمنطق ومنطوق الشرعة الأممية.
حالة التوافق الدولي التي ظهرت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث التصويت بغالبية كبيرة ضد قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تضع الفاعل الفلسطيني تحديدا والعربي في حلقة ثانية، أمام استحقاق استثمار هذه الحالة التوافقية وتجييرها لصالح القضية الفلسطينية.
التصويت في الجمعية العامة يعطي للقرارات صبغة رمزية قوية وكبيرة، لا فقط لأن طبيعة التصويت قريبة جدا من مبدأ العدل حيث لا مجال للمغالبة بالفيتو، بل أيضا لأن التصويت يعكس إرادة كافة العواصم العالمية ويجسد القدرة الدبلوماسية للبلدان الأعضاء على الإقناع والتسويق والاتصال الحصيف.
في قراءة سريعة للعواصم المقرّة أو الممتنعة عن التصويت لصالح قرار دونالد ترامب يتبيّن أن إسرائيل باتت اليوم تتمتع بشبه عمق دبلوماسي في عدد من الدول الأفريقية التي طوّعتها تل أبيب بقوة المال والاستثمارات المشتركة وتوظيف الجاليات اليهودية الموجودة هناك.
ما يفضي بالضرورة إلى استدارة فلسطينية وعربية إلى تلك الجغرافيا الجنوبية التي باتت اليوم مستقبل الشمال والجنوب، من خلال إحياء الرصيد الرمزي الذي تركه الجيل الأول من رعيل الاستراتيجيين العرب من جمال عبدالناصر إلى هواري بومدين، وبناء شراكات مع دول أفريقية عانت من ويلات الاستعمار والتطهير العرقي والإبادة والتفرقة العنصرية.
بيد أن الأهم يكمن في تصويت العواصم الأوروبية ضد القرار، وهو بيت القصيد والنقطة المفصلية التي يجب على المفاوض الفلسطيني أن يقف عندها مليّا.
تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لا بد أن يكون نقطة تأريخ جديدة لمسار التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وبداية مرحلة جديدة ومغايرة بشكل جذري للفترة السابقة، بما تعنيه كلمة سابقة من مرحلة ما قبل أوسلو 1993 وأثناءها وبعدها.
من المفترض فلسطينيا على الأقل، أن نكون اليوم حيال تحقيب جديدة لمسار المفاوضات، فلئن كانت مرحلة أوسلو تحمل في مضمونها عنوان الوصاية الأميركية على التسوية، شكلا ومحتوى، فإن مرحلة ما بعد القرار الأممي في 2017 لا بد أن تتضمن في مقولتها الكبرى كسر الوصاية الأميركية لصالح وساطات أخرى على رأسها الأوروبية.
التصويت يكشف في العمق أيضا أنّ المقولة الساداتية- نسبة للرئيس المصري الأسبق أنور السادات- بأن 99 بالمئة من اللعبة في المشرق العربي في يد الولايات المتحدة، قد تكون صحيحة في زمنها وراهنها، ولكنها عاجزة عن التحول إلى مقولة تفسيرية تنسحب على كافة الحقب التاريخية، فالعالم اليوم صار متعدد الأقطاب ومتشابك المصالح بصورة جدّ معقدة.
ولئن كان الاتحاد الأوروبي يمثل طرفا فاعلا في الرباعية الدولية (مع روسيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة) فإنه من باب أولى أن تمارس العواصم الفاعلة فيه، ونعني هنا بالضبط فرنسا تحديدا وألمانيا بعد التعافي الكلي من عقدة الذنب النازي ضد اليهود، دورا فاعلا في الوساطة وفي بلورة خارطة طريق على قاعدة وأساس القرار الأممي.
القرار يفتح أيضا المجال أمام كافة سبل دعم القدس والمقدسيين من الجوار العربي والعمق الإسلامي والمحيط الإنساني، طالما أن القضية صارت بالتعريف الأممي قضية شعب تحت احتلال جائر تنسحب عليه عبارة “الحق في تقرير المصير بكل الوسائل المتاحة”.
القرار خطوة إيجابية في مسار طويل من الصراع العربي الإسرائيلي، يجب تصييره من قرار رمزي إلى منظومة شاملة من المقاومة والمقارعة تشارك فيها السلطة الفلسطينية عبر تحويل وظيفتها من مهمة التنسيق الأمني مع إسرائيل وتخفيف فاتورة الاحتلال والتنظيم الإداري لحياة الفلسطينيين، إلى الدفاع عن الشعب الفلسطيني وتجميد كافة الواجبات الملقاة على عاتقها بالسيف الأميركي والسياط الإسرائيلي.