إذْ ينتقل إيمانويل ماكرون، اليوم، من صفة الرئيس المنتخب إلى شخص الرئيس الفعلي كامل الصلاحيات (وبالمعنى الإمبراطوري الذي فصّله شارل ديغول في دستور الجمهورية الخامسة)؛ فإنّ الغيوم المدلهمة لتوها في سماء فرنسا ما بعد فرنسوا أولاند، سوف تزداد قتامة وكثافة واحتمال رعود وبروق!
وليست اللغة الاستعارية، هنا، إلا بعض ما يحتشد على مكتب ماكرون من مشكلات عويصة مستعصية؛ لن يبدأ أولها من تسمية رئيس وزراء يحظى بالإجماع، أو يعكس القدرة على تحقيقه، بين اليسار واليمين والوسط، وبين أرباب العمل ونقابات العمال؛ ولن يكون أعقدها خوض معركة الانتخابات التشريعية، وحيازة أغلبية معقولة تتيح للرئيس الحكم دونما حاجة إلى «مساكنة» هذا الحزب أو ذاك؛ ولن ينته آخرها عند هموم أوروبا وهواجسها، كما ستصبح أجندة يومية في أشغال الرئيس منذ أن تهبط طائرته في برلين، للقاء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في أوّل زيارة رسمية خارج فرنسا.
الثابت، في كلّ حال، أنّ جوهر هذا المشهد المتداخل لا يتصل بشخص الرئيس نفسه، أو بطبائع انتخابه على نحو أقصى التيارين السياسيين الرئيسيين في الجمهورية الخامسة، فحسب؛ بل يرتبط، أيضاً ومباشرة، بالحال التي تعيشها فرنسا، المجتمع والاقتصاد والسياسة والدولة، بصفة خاصة، مثلما تعيشها أوروبا بصفة عامة، وإنْ بمقادير متفاوتة من الشدّة. عولمة، وحشية أم معتدلة، سواء بسواء؛ واقتصاد سوق متأزم، يعاني من انسداد بنيوي واستعصاء عضال؛ وفلسفة ليبرالية أو نيو ـ ليبرالية، لم تعد تعرف لها هوية إيديولوجية بين يمين أو وسط، أو حتى يسار!
هل نسير، جميعاً، نحو الخراب؟ هكذا تساءل، قبل سنوات قليلة فقط، الكاتب والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي في كتاب يحمل روحية التطيّر ذاتها ابتداء من العنوان: «هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟». طبعة الكتاب الأولى بلغت 70 ألف نسخة، ليس لأسباب تخصّ علوّ كعب المؤلف في الاقتصاد السياسي؛ بل لأنّ توقيت نشر الكتاب كان حاسماً تماماً، لجهة التناغم مع حال الرعب العامة، الجَمْعية على نحو أو آخر، إزاء مآزق الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة.
ولا بدّ، على الفور، من التذكير بأنّ أتالي ليس بالمراقب العادي لمشهد العولمة الراهن، أو خرائط التأزّم الاقتصادية والجيو ـ سياسية. لقد عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فوقف على الكثير من خفايا السياسة الدولية، خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية. لكنّه، ثانياً، اقتصادي بارز، شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الإتحاد الأوروبي.
أمّا صلته بالمشهد الفرنسي الراهن، بعد الانتخابات الرئاسية، فهو أنّ أتالي كان بين أوائل الذين تنبأوا بصعود ماكرون وسطوع نجمه واحتمال وصوله إلى قصر الإليزيه؛ وذلك في حقبة مبكرة لم يكن فيها أحد من ساسة فرنسا، والغالبية الساحقة من الكتّاب والمعلقين، قد امتلك جرأة التلميح إلى احتمال كهذا. بذلك تبدو المفارقة صارخة حقاً: هذا رجل استبشر خيراً بشابّ آت من قطاع المصارف، غريب عن الأحزاب ومحكّ الانتخاب والاحتراف السياسي، حائر بين الوسط ويمين اليسار ويسار اليمين؛ ولكنه، في آن معاً، الرجل الذي بشّر بانهيار «كل شيء» خلال عشر سنوات، أي خلال فترة زمنية تشمل حكم ماكرون أيضاً!
ومع ذلك، وربما بسبب من ذلك تحديداً، قد يختار الناخب الفرنسي ما تحمله هذه المفارقة من «حكمة» عملية، فيمنح الرئيس الشاب أغلبية برلمانية مفاجئة؛ إنْ لم يكن بسبب من التمسك ببارقة أمل ما، أياً كانت مصداقيتها الظاهرة، فعلى الأقلّ لكي يُنزل العقاب بطبقة سياسية حكمت طيلة ستة عقود تقريباً، ففشلت مراراً وتكراراً، ووُضعت أخيراً على الرفّ!
المصدر: القدس العربي-صبحي حديدي