أول من تحدّث عن حكم الأقلية العلوية في سورية صراحةً هم الصحفيون والمحللون السياسيون الغربيون، وقبل أن يتجرأ سوري باستخدام حاسة النطق لديه للخوض في هذا الموضوع بسنين، فطوال حكم حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار، كان هناك خطان أحمران عريضان لا يتم التسامح مع مجرد الاقتراب منهما، نقداً أو مناقشةً أو حتى همساً، هما: الرئيس وطائفته، وكان الصمت أو التفاهم بالنظرات هما اللغتين الوحيدتين المستخدمتين لسنين طويلة في هذا الموضوع، للتعبير عن استياء أو احساس بالظلم أو تحذير شخص ساهٍ، إلى أن أعلن موت حافظ الأسد في 10 يونيو عام 2000 حين صحا جميع السوريين على حقيقية أن الرجل الذي كان يمثّل العصا التي حكمت بها أقلية الأكثرية قد مات.
أتذكر يوم موت حافظ الأسد الذي تحل ذكراه السادسة عشرة بعد أيام قليلة، وأتذكر الأيام التي تلته، كان الوقت دقيقاً وحساساً والأعصاب مشدودة حينها، وكان هناك احساس شبه عام لدى معظم أبناء الطائفة العلوية بأنهم صحوا فجأة على مجهول غامض ومرعب، ورغم أن حافظ الأسد وطاقم حكمه كانوا قد رتبوا توريث حكم سورية لابنه بشار متحسبين لتفصيل التفصيل، ورغم سيطرتهم الكاملة على فرق الجيش وأجهزة المخابرات، ورغم عدم وجود شخصية قوية ذات نفوذ من خارج دائرتهم، وغياب أية معارضة يمكن أن تقود احتجاجاً من عشرة أشخاص، ونزول بعض قطعات الجيش المطلقة الولاء لهم، إلاّ أن الخوف كان هو الشعور الوحيد والطاغي على معظم أبناء الطائفة، رغم امتلاكها تسعين بالمائة على الأقل من مراكز النفوذ وعوامل القوة، واحتكارها لكل سلاح موجود في سورية.
أتذكر من بين ما أتذكره عن تلك الأيام رجلاً من الطائفة العلوية متزوج من دمشقية سأل والدة زوجته بحضوري ما إذا كانت ستخبئه فيما لو حدث شيء، ورد أبي حسن (الذي كان يحسب نفسه على المعارضة وقتها) علي عندما سألته لماذا سافر إلى قريته أيام موت حافظ الأسد، فأجابني بأنه ذهب خوفاً من حدوث شيء قد يهدد حياته، وأتذكر احتداد حسن م. يوسف على رئيس القسم الثقافي في جريدة تشرين عبد الكريم عبد الصمد، لأنه نشر مادته في رثاء حافظ الأسد في الصفحات الثقافية الداخلية، فيما نشر لزميلته رغداء مارديني مادةً في نفس الموضوع على الصفحة الأخيرة، وعندما ذكّره رئيس القسم بمادته الأولى التي نشرها له بالأمس في رثاء حافظ الأسد على الصفحة الأخيرة، وأنه لا ضيّر من نشر المادة الثانية في صفحة داخلية، قال له حسن م. يوسف الذي كان يعتبر نفسه معارضاً: “ولو كان.. هذا تبعنا مو تبعكم”!
أستطيع أن أروي مئات القصص التي شهدتها بنفسي أو كنت طرفاً فيها أو سمعتها من آخرين عن تلك الأيام العصيبة التي شعر فيها معظم أبناء الطائفة العلوية بأنهم مهددين في وجودهم عند موت حافظ الأسد، ولدى السوريين آلاف القصص عن التوتر والرعب الذي عاشه هؤلاء تلك الأيام، وبغض النظر عن كون هذا التهديد حقيقياً وناتجاً عن مظلومية تاريخية توارثتها أجيالهم، ولعب حافظ الأسد على شد عصبها لتحصين نفسه وحكمه بها، أو مجرد شعور زائف لتغطية الخوف من فقدان النفوذ والسيطرة والتحكم بالسلطة والثروة في سورية، فقد كانت ردة الفعل الأولى والأساسية لأكثريتهم هي مزيد من الانغلاق والتقوقع والتماهي بالنظام، بمن فيهم كوادر أحزاب معارضة دخلت السجون أيام حافظ الأسد، لكنها مع استلام ابنه الذي اعتبرته ضعيفاً وقد لا يكون بقوة والده في الامساك بالسلطة وحماية استمرار نفوذها وسطوتها، انحازت إليه بعد اجراء تعديلات بسيطة في وعلى شعاراتها.
خلال حكمه سعى حافظ الأسد إلى عزل طائفته ووضعها في مواجهة السوريين، وبدلاً من أن يصحح وضعاً شاذاً حولها تاريخياً إلى منبوذة عبر دمجها بنسيج المجتمع السوري، وكان لديه ثلاثة عقود كافية لذلك أو للبدء به على الأقل، اختار العكس فقد كان حصر أغلب ضباط الجيش والمخابرات الفاعلين بها، وأطلق يدهم تقتيلاً وتعذيباً وارهاباً للمجتمع، وجنّد شبابها في مختلف فروع المخابرات، بحيث تحولت في نظر شركائها في الوطن إلى حالة أقرب إلى السلطة المحتلة المسلطة على رقابهم، ومقابل احتمائه بها منح لرجالاته منها سلطةً ونفوذاً وثروة فاقت تصورهم، وخلق مع اخوته وأبناء عائلته مليشيات وجمعيات طائفية كسرايا الدفاع وجمعية المرتضى وسواها، أذلت السوريين واستعبدتهم واعتدت على أعراضهم وحرماتهم وأرزاقهم، ووصلت إلى حد نزع الحجاب من على رؤوس النساء في شوارع دمشق، واستباحة وسرقة مدنيي المدن العزّل التي دخلتها خلال معركته مع الاخوان المسلمين، وصولاً إلى السجون التي زج فيها معارضيه، وكان سجانوها يمارسون تعذيباً وقتلاً وتمييزاً طائفياً ضد المعتقلين وخاصة الاسلاميين منهم.
قد لا يكون كل الذين قمعوا وقتلوا وعذبوا السوريين خلال سنوات حافظ الأسد من الطائفة العلوية، وهو كذلك بالفعل، لأن آخرين من كل الطوائف والأعراق والقوميات والأديان شاركوا في كل مذابحه خلال سنوات حكمه، لكنه لم يقدّر أن كل ما ارتكب من جرائم ستلصق بطائفته لأنها كانت في الواجهة باعتبارها الحاكمة والمسيطرة والمتنفذة والآمرة، أو أنه قدّر وقصد ذلك فعلاً لكي تكون محاطة بجو عدائي فيصعب عليها التخلي عنه، ويسهل عليه قيادتها والاحتماء بها.
من الصعب رد هذا التماهي بين معظم أبناء الطائفة وحافظ الأسد وربط مصيرهم ووجودهم بنظامه إلى سبب واحد، فهناك أسباب عديدة يتحمل مسؤوليتها الطرفان، من المظلومية التاريخية والاحساس بالخوف والعقيدة الدينية وإغراء السلطة وفحش الثراء الذي وجدوا أنفسهم يتمتعون ويستمتعون به، ولا يعفي أي من الفريقين من كل الجرائم التي ارتكبت بحق السوريين، أن يقول بأنه كان منقاداً أو مغرراً به أو تم توريطه، وحتى الآن ورغم أن عدة فرص سنحت لهم لمراجعة مسيرتهم إلى جانب النظام والرئيس، لم تخرج مجموعة حقيقية وازنة بوجوه معروفة لتعترف بما ارتكب باسمها وعلى أيدي أبنائها من جرائم وانتهاكات، وفضلت دائماً صيغاً مضحكة مثل: النظام ورّط الطائفة وغرر بها، والكل يقتلون، والخوف من النظام المجهول القادم جعلها تنحاز للنظام، والحرب الكونية على نظام مقاوم وممانع، ودول الخليج ومن خلفها أمريكا تريد تسهيل المشروع الاسرائيلي في المنطقة عبر اسقاط نظام الأسد، والمشروع الاخواني لرجب طيب أردوغان، وداعش والنصرة هما البديل.
كانت الفرصة مواتية للطائفة العلوية عند موت حافظ الأسد في مثل هذه الأيام قبل ستة عشر عاماً للتفكير بمصيرها والقلق الذي عاشته على وجودها، ولكن معظم أبنائها بعد اطمئنانهم لثبات حكم بشار الأسد تناسوا خوفهم، وعادوا إلى سطوتهم وشعورهم بالرضى كلما غيّر بضعة أشخاص من السوريين حديثهم أو صمتوا بسبب حضور أحد منهم، واحساسهم بالسعادة وهم يأخذون فرص غيرهم، وتمتعهم بالغرور وهم يحسون أنهم فوق القانون، واحساسهم بالامتنان لحافظ الأسد الذي رفعوه إلى مقام الربوبية والقداسة، لكنهم ذات يوم بعد أن يكون قد مرّ وقت طويل على فوات الأوان سيشعرون أن من هدد وجودهم فعلاً، وساهم في قتل أبنائهم، ليس السوريين الآخرين الذين خوفهم حافظ الأسد منهم، بل حافظ الأسد ونظامه الذي حول معظم أبناء طائفته إلى جثث ومجرمين ومعاقين، وهم وافقوا وشاركوا بكامل قواهم العقلية وارادتهم الحرّة.
هافينغتون بوست عربي