ما يريده العراقيون من ترامب بصورة عاجلة العمل على إزاحة جميع المستشارين ودوائر اللوبي، التي كرست الحكم الطائفي في العراق، واستبدالهم بعناصر ذات رؤية حكيمة.
حزمة من الخطابات أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل عام خلال حملته الانتخابية وقبل فوزه بدخول البيت الأبيض في العشرين من هذا الشهر. أبرز تلك العناوين استعداده لشن حرب خاطفة على داعش والإرهاب في العراق وسوريا، وفي كل مكان لحماية أمن بلاده، وإشاراته المتعلقة بالملف العراقي كانت مشتتة ولم تعبر عن تقاليد سياسية تقليدية، ذلك أن الرجل الخارج من بيت المال يتعاطى ببورصة الدولار ومضاربات عالم التجارة، ومستويات حركة العقارات، ووجد نفسه فجأة وسط عالم مليء بتعقيدات السياسة والعسكر والمخابرات والمصالح الاستراتيجية وتأثيراتها على الاقتصاد.
كان ترامب يتطلع إلى السياسيين ليفتحوا أمامه قنوات النفع المادي للشركات العملاقة التي يديرها والآن وجد نفسه رئيسا للبيت الأبيض. صحيح أن رؤساء الولايات المتحدة جاء أغلبهم خصوصا خلال القرن الأخير من بيوتات التجارة والاقتصاد وخاصة شركات النفط، إلا أن ترامب يتميز بكونه غارقا في مفردات المال التجاري. ترامب اليوم على رأس الدولة الكبرى في العالم التي تؤثر في عوالم المال والسياسة والعسكر والأمن العالمي، وقراراته تخرج من البيت الأبيض نحو محيط عالمي كبير وليست كلاما داخل قاعات مترفة. صحيح أن أميركا تديرها مؤسسات، لكن الرئيس له القرارات الكبرى، فهو يمتلك قرارات تسيير الجيوش وتحريك المواقف تجاه هذا البلد أو ذاك. ونتذكّر كيف تميّزت سياسات رؤساء سابقين لترامب وطبعت السياسة الأميركية بأسمائهم.
هل ينسى العراقيون على سبيل المثال سياسة جورج بوش الابن ضدهم حين قرر احتلال بلادهم احتلالا عسكريا مقيتا ومرفوضا، بالطبع ليس من قبل أولئك الذين جاؤوا من شعاب المنافي ومن ضغوط إعانات بلديات دول اللجوء، أو من ضغوط ضيافة البلد الجار الذي آواهم باسم الولاء للمذهب والعقيدة، وانبهروا بهذا الاحتلال الذهبي الذي قدم لهم السلطة مقابل خدمة أهدافه ضد شعب العراق وقيمه وتقاليده العريقة، ولم ينس العراقيون ثماني سنوات من سياسة باراك أوباما الحالم بعالم ميتافيزيقي يتساوى فيه السجان والضحية، ويسمح للقتلة بأن يتحولوا إلى وعاظ للحكمة والديمقراطية والسلام.
لا شك أن الزعامة لها دورها وتأثيرها في صناعة التاريخ أيا كان لونه جميلا أو قبيحا. وترامب ستكون له بصماته قبلناها أم رفضناها، وهامشه في وقائع السياسة الأميركية في نهاية هذا الشهر سيكون مهمّا. يتسلم ترامب الرئاسة الأميركية في ظل هذه التشابكات المعقدة والتراجعات الأميركية الهائلة في العالم ومنطقة الشرق الأوسط التي أصابتها الفوضى الخلاقة في القلب، فأي الأولويات ستتقدم في المئة يوم الأولى كما اعتاد تسميتها المتابعون، وأين الملف العراقي في هذه الزحمة الهائلة؟
رب قائل يقول: لن يكون نصيب للملف العراقي في أولويات ترامب خاصة بعد النهاية الرسمية لتنظيم داعش في العراق في الشهور القليلة المقبلة. داعش ابن القاعدة، والأخيرة لعبة قديمة استخدمها الأميركان ضد روسيا السوفييتية في أفغانستان بين 1979 و1989 وطلبوا من السعودية في حينه معاونتهم في تلك الحرب مستغلين الجانب العقائدي لها. أما لعبة اليوم لوليد القاعدة، تنظيم داعش، فهي تتوزع على أكثر من رأس كبير أو صغير، يستخدمها الأميركان كوسيلة للنفوذ في المنطقة الحيوية من العالم، وكذلك الروس لتسهيل عودتهم القوية إلى مناطق النفوذ عبر الحرب السورية.
كما أصبح داعش وظيفة صالحة للاستخدام المحلي العراقي والسوري والإقليمي والدولي، فاستخدمه بشار الأسد كأداة وغطاء لقمع شعب سوريا الجريح المشرد، واستُخدم في العراق من قبل جهات سياسية عديدة لتكريس الثأر والحقد والكراهية. الجميع يستخدمه كأداة وغطاء لقتل الأبرياء وتجويعهم واقتلاعهم من بيوتهم. ترامب اتهم هيلاري كلينتون بأنها صنعت وسهّلت مهمات داعش. فما الذي سيفعله ترامب في العراق قبل وبعد داعش؟ وكيف سيتعامل مع الحالة السياسية العراقية، بالاستناد على مقولته الانتخابية “لا يوجد عراق، بل مجموعة من السرّاق والفاسدين؟”. هناك مفردات مهمة وخطيرة في الملف العراقي ستفرض نفسها على البيت الأبيض حتى وإن لم يرغب ترامب في الخوض في منحنياتها المعقدة. لكن مستشاري ترامب في البيت الأبيض والخارجية والمخابرات والبنتاغون لديهم أولويات من عهد إدارة أوباما كانت مطبوعة بسياسة الرجل الراحل من البيت الأبيض.
العراق ليس نقطة صغيرة باهتة على خارطة العالم لأنه يمتلك النفط وثاني أكبر مخزون منه في العالم، ولم تصل بعد أميركا أو أوروبا إلى حالة الاستغناء عن نفط العرب ونفط العراق. ويتذكر ترامب، أو لعل مستشاريه يذكرون، بأنه حين احتلت القوات الأميركية العراق في أبريل من العام 2003 كانت المواقع الأولى التي وضعت تحت الحماية الأميركية هي آبار النفط ومراكز إنتاجه لأغراض المحافظة والاحتواء، إلى جانب المتحف العراقي والمواقع الأثرية لأغراض أيديولوجية أصبحت معروفة. وهو مغتاظ من سياسة بوش وأوباما لأنهما لم يأخذا الديّة، أي عائد الغنيمة من الانتصار في الحرب على العراق وحدد المبلغ بـ5.1 تريليون دولار، وهو مصمم على أخذها ومستعد لإرسال جنود أميركان لإحاطة آبار النفط العراقية لنقل النفط إلى أميركا؟
ومع ذلك لم تهتز أعصاب الحكومة العراقية سوى بتعقيب من رئيس وزرائها “إنه كلام دعاية انتخابية” في حين تتسرب أخبار كثيرة هذه الأيام عن وصول أعداد متزايدة من الجنود الأميركان إلى قواعد عسكرية أميركية في عين الأسد والحبانية وغيرهما، وكذلك التصريحات العسكرية الرسمية الأميركية بأن القوات الأميركية ستبقى في العراق لمدة طويلة حتى وإن تم طرد داعش.
ومهما أراد ترامب تجاهل الحالة العراقية لكنه سيجد نفسه وسطها، لأنها قلب الأزمات في المنطقة، فهل سيتمكن من حل القضية السورية سياسيا من دون حل سياسي في العراق؟ وما هو هذا الحل؟ هناك مقاربات مهمة وضعتها إدارة أوباما جعلت من النفوذ الإيراني بالعراق أمرا لا مفر منه بل هو ضروري في حسابات استراتيجية باهتة، أكثر من عبر عنها في مناسبات مختلفة السفير السابق خليل زلماي زادة الذي يتبجّح بالاتفاقات الأميركية الإيرانية المتواصلة سواء في التحضير لاحتلال العراق، أو ما بعده.
وهذا هو السبب الذي أعطى للأحزاب الشيعية العراقية مكانتها الاعتبارية في السياسة الأميركية، رغم ما نسمعه من عبارات غير ودية تجاه أميركا في وسائل إعلام تلك الأحزاب، وهي غير حقيقية ولأغراض التسويق الشعبي. السبب المهم في تراجع إدارة أوباما عن ترجمة سياسات ذات نفع عام للعراقيين بعد فضائح الفساد الكبرى والفشل في إدارة النظام والحكومة، هو ضعف كوادر الخارجية الأميركية وبينهم العاملون في سفارتهم ببغداد عن تقديم توصيات سياسية عملية مهمة وجريئة لإحداث تحول سياسي جدي ينهي آثار سياسات وبرامج اليمين الأميركي المتشدد، الذي مثله الكارتل الذي أدار سياسة أميركا في العراق (بول وولفيتز ودونالد رامسفيلد وريتشارد بيل ودوغلاس فيث).
لا شك أن صناعة القرار الأميركي تنتج عن دوائر البنتاغون والمخابرات والخارجية بعد موافقة الرئيس، والوضع العراقي اليوم يخضع لمعادلة لن تتراجع عن ذهن الرئيس ترامب وإدارته، وهي أن “القضاء العسكري على داعش في العراق حتى وإن أنجز لا بد أن يحقق الحل السياسي في الموصل أولا وفي العراق ثانيا”. فما الذي سيحصل، هل يتوقع أن سياسة النظام في بغداد وما نتج عنها من كوارث لثلاثة عشر عاما ستستمر وليعاد إنتاج المحاصصة الطائفية، وهل خطابات ترامب عن الإسلام السياسي ستبقى كلام انتخابات فقط، أم لديه القدرة على إحداث التغيير في العراق، وعدم إبقاء هذا البلد رهين سياسة طهران فقط، رغم أنه بلد جار وله، كما لتركيا أيضا، من حقوق الجيرة دون التدخل في الشؤون الداخلية.
ما يريده العراقيون من ترامب بصورة عاجلة العمل على إزاحة جميع المستشارين ودوائر اللوبي التي كرّست الحكم الطائفي في العراق، واستبدالهم بعناصر ذات رؤية حكيمة تنصف العراقيين الذين ذاقوا الويلات من الاحتلال والطائفية، وتقديم رؤى جديدة لإحداث التغيير في العراق نحو السلم الأهلي ونبذ الطائفية، وأن يعاون ترامب العراقيين في إزاحة من تسبب بخراب هذا البلد، وفتح العيون الأميركية على القوى والشخصيات الليبرالية من السنة والشيعة والدخول في حوارات جادة للعمل سوية من أجل إنقاذ وضع عرب العراق، لأن الأكراد ذاهبون إلى دولتهم الفتيّة. عرب العراق يريدون من ترامب أن يحدث تغييرا يتناسب مع ما تحدث عنه في حملته الانتخابية.
العرب د. ماجد السامرائي