في ساعات الصباح الأولى شنت الولايات المتحدة الأمريكية هجومًا عنيفًا مفاجئًا أمطرت فيه سوريا بالصواريخ.
فقد أطلقت الولايات المتحدة من بارجتيها روس وبورتر المتواجدتين في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط 59 صاروخًا موجهًا من طراز توماهوك استهدفت مطار الشعيرات العسكري السوري. (وذلك في 6 من نيسان/ أبريل عند الساعة 20:40 بتوقيت واشنطن الموافق لـ 7 من نيسان عند الساعة 3:40 في تركيا).
وبالرغم من حديث وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون قبيل ساعات عن الرد على الهجوم الكيماوي لنظام الأسد على إدلب قبيل ساعات لم يكن ليتوقع أحد ردًا فوريًا كهذا على الإطلاق.
وقد رحبت أنقرة بالهجوم الأمريكي مبدية رغبتها في معاقبة الأسد. في حين استشاطت طهران الداعمة دون قيد أو شرط لبشار الأسد غضبًا. لتتوجه الأنظار جميعها إلى موسكو. حيث دعا الرئيس فلاديمير بوتين في أول تعليق له إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن معتبرًا الضربة الأمريكية ضد سوريا تمثل خرقًا للقانون الدولي وستلحق الضرر بالعلاقات الروسية الأمريكية. فقد كان للدعم المقدم من بوتين إلى نظام الأسد حتى في هجومه الأخير دور كبير في نفاد صبر الولايات المتحدة الأمريكية وشن هجومها هذا.
وقد يكون من المفيد مراجعة التطورات التي جرت خلال الأيام الثلاثة الماضية وذلك لمعرفة ما الذي أدى لنفاد صبرها وكيف وصلت الأمور إلى هذا الحد.
فقد بلغ الصبر حده مع بدء صور أجساد الأطفال الهامدة بالتقاطر على وكالات الأنباء العالمية يوم 4 من نيسان.
ومثلما عاش العالم الذي صم آذانه عن مشكلة اللاجئين السوريين حتى أيلول/ سبتمبر 2015 صدمة مع صورة جثة الطفل إيلان الهامدة التي ضربت ساحل بودروم، اهتز العالم أجمع مع صور الأطفال القادمة من إدلب.
وبحسب المعلومات التي بحوزة أنقرة فإنه في حوالي الساعة 6.30 صباحًا شنت طائرتان حربيتان سوريتان من طراز سوخوي – 22، خمس ضربات جوية على منطقة خان شيخون التابعة لمدينة إدلب القريبة من الحدود التركية واستهدفت أهدافًا عديدة. ومن ثم بدأت صور وأخبار القتلى تتوارد تدريجيًا. ليرتفع عددهم حتى مساء أمس إلى 86 قتيل معظمهم من الأطفال. وفقدان ثلاث من الضحايا حياتهم أثناء معالجتهم في تركيا.
وكانت الحكومة التركية قد وجهت في يوم سابق، أي في 5 من نيسان إلى المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية دعوة للمشاركة في تشريح جثة أولى الضحايا. وهي خطوة صحيحة ساهم فيها السلاح الكيميائي المستمد من تلك الصور والمشاهدات في التعرف عبر أدلة رسمية ستثبت فيما إذا كان استخدم غاز سام أم لا. فقد أكد وزير الصحة التركي رجب أقداغ أن نتائج التشريح أظهرت أن الضيق الحاد في التنفس كان سببًا رئيسيًا للوفاة والعثور على أبخرة مصدرها غاز السارين.
والسارين، هو غاز اكتشف في ألمانيا النازية عام 1938. وقد تم تحريمه دوليًا عام 1997 باعتباره سلاحًا كيميائيًا خطيرًا من الدرجة الأولى حتى ذاع صيته مجددًا في الآونة الأخيرة خلال الحرب الأهلية السورية. وجرى الحديث عنه خلال الهجوم الكيميائي الذي نفذ في الغوطة الشرقية الواقعة في ضواحي مدينة دمشق في 21 من آب/ أغسطس 2013، وقتل فيه مئات الأشخاص.
أما في الهجوم الأخير فقد تعرضت وزارة الصحة التركية للكثير من الضغوط وازداد التوتر حتى توصلت إلى هذا التصريح الصادر عنها.
ومثال على ذلك عرضت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هالي صورًا لأجساد الضحايا من الأطفال السوريين أثناء اجتماع مجلس الأمن الذي عقد في 5 من نيسان، وحملت روسيا المسؤولية عن تلك المجزرة بسبب دعمها لنظام الأسد. وبالمقابل أعلنت روسيا أنها ستواصل دعمها للحكومة السورية في حربها على الإرهاب.
حيث فشل إصدار مشروع قرار إدانة سوريا الذي أعدته كل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا نتيجة معارضة روسيا له؛ واعتبار انتقادات روسيا غير موضوعية.
وبناء عليه أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تجاوز سوريا كل الخطوط، وليس الخطوط الحمراء فحسب. مشيرًا في ذلك إلى سلفه باراك أوباما.
كان الرئيس أوباما قد أعلن في تصريح له في 20 من آب 2012 أن استخدام السلاح الكيميائي ضد المعارضة لنظام الأسد خطًا أحمر، وألمح فيه إلى اللجوء للتدخل العسكري في حال تجاوز ذلك الخط؛ وقد رحبت تركيا بهذا التصريح أنذاك. غير أن أوباما نفسه نفى الحديث عن خطوط حمراء في 4 من أيلول 2013 إزاء التذكيرات المتزايدة بالمخطط الدولي عقب أحداث الغوطة والتملص من وعوده. وبالتالي تزايدت اعتداءات نظام الأسد المدعوم بحصانة دبلوماسية روسية وصينية في مجلس الأمن عندما تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل.
ومع ظهور داعش في 2013. تدخل الحرس الثوري الإيراني وميليشيات حزب الله اللبنانية في سوريا وساهموا في الحرب ضد المعارضة والتنظيمات الإرهابية مثل داعش وجبهة النصرة مستغلين انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الساحة. أما تركيا التي اتهمت بتسهيل عبور العناصر الإرهابية الأجنبية إلى سوريا عبر حدودها البالغ طولها 910 كم، وعدم اهتمامها بعودتهم إضافة إلى تقديمها الدعم العسكري للجهاديين أنذاك، فقد عانت من موجات اللاجئين ليصل عددهم اليوم إلى 3 ملايين. ومن ثم تعرضها إلى عمليات إرهابية دموية مصدرها داعش وبي كي كي.
في حين دخلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الساحة السورية عبر وحدات حماية الشعب الكردي الجناح العسكري وحزب الاتحاد الديمقراطي الذراع السوري لبي كي كي أثناء أحداث كوباني في أيلول 2014. لتتبعها روسيا في أيلول 2015 ومن ثم تركيا في آب 2016.
وهو ما يفسر سبب تلقف وعود أوباما المتعلقة بالخطوط الحمراء تجاه كافة هذه التطورات مع الإشارة إلى خطوط ترامب.
وفي صباح 6 من نيسان اجتمع مجلس الأمن. ورغم وصف موسكو ما شهدته إدلب في صباح ذلك اليوم “بالوحشي” فإنها عرقلت مجلس الأمن مجددًا ومنعت إصدار القرار.
وبهذا الخصوص لم يكن الرئيس رجب طيب أردوغان الوحيد التي أبدى رد فعل تجاه الأمر. فقد وصفت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، عدم تبني مجلس الأمن الدولي بعد أي قرار إدانة بشأن حادث استخدام السلاح الكيميائي في سوريا بـ”الفضيحة”. بينما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الدول الأربع المؤثرة في الساحة السورية إلى السماح بإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين عبر وقف إطلاق النار مدته 72 ساعة على الأقل؛ وتلك الدول هي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران وتركيا. مما يعني اعتبار السكرتير العام تلك الدول الأربع بمثابة اللاعبين الأساسيين في الساحة السورية ضمنيًا.
وفي اللحظة الذي اعتقد فيها أن اليوم سينتهي بتوجيه الدعوات والادانات المتبادلة تصادعت حدة التصريحات خلال ساعات المساء. وذلك بحديث الرئيس ترامب في تصريح أصدره في مجلس النواب الأمريكي بأنه يدرس التدخل العسكري في سوريا ولكنه لم يتخذ أي قرار بعد بهذا الشأن ، بالإضافة إلى احتمال قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتحرك منفرد في حال عدم اتخاذ مجلس الأمن قرار ومناقشة ذلك مع البنتاغون.
وهو أمر كان مفاجئًا بالفعل. لأن ذلك لا يعني مجرد القيام بتغيير جذري في السياسة الأمريكية تجاه سوريا فحسب بل يمكن اعتباره نهاية لسياسة الغرب المرحبة بأولئك الدكتاتوريين العديمي الرحمة لمجرد أنهم ليسوا إسلاميين.
وفي غضون ذلك أصدرت موسكو تصريحًا مفاجئًا آخر. أكد فيه ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الرئيس فلاديمير بوتين أن دعم روسيا للأسد “ليس غير مشروط”. لتبدأ تلك الرياح الشمالية بالهبوب على نظام الأسد خلال بضع ساعات دون أن تتلقى الولايات المتحدة الأمريكية الرد المطلوب من موسكو.
التطور الذي طفح الكيل
وفي غضون ذلك كان الاحتمال الوارد هو حدوث تطور يفقد الجميع صبرهم بشكل فعلي. وهو تطور اتضح من خلال المعطيات الجديدة الممثلة في المؤشرات على استخدام غاز السارين والمؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية السوري وليد المعلم. حيث نفى استخدام الجيش السوري السلاح الكيميائي مكررًا الحديث نفسه الذي قاله عند هجوم الغوطة في 2013. في حين ذكر تقرير الأمم المتحدة الذي كذب ادعاءات الحكومة السورية فيما بعد، إطلاق رؤوس حربية محملة بغاز السارين على منطقة الغوطة بصواريخ أرض – أرض التابعة للجيش السوري. كما أضاف المعلم أمراً آخر يمكن وصفه بأنه “عذر أقبح من ذنب”: ادعى فيه استخدام تلك الأبنية التي قصفت كمخزن للأسلحة الكيميائية لدى جبهة النصرة.
وعلى افتراض أن ما قاله صحيح، فمن الواضح أن النتيجة الطبيعية لقصف مخزن يحوي أسلحة كيميائية أن يؤدي إلى مقتل وإصابة جميع من في المنطقة دون التفريق بين صغير أم كبير، مذنب أم غير مذنب. فمن البديهي أن قصف بناء يمكن أن يحوي أسلحة كيميائية في منطقة مؤهولة سكانيًا سيؤدي إلى مقتل المدنيين المتواجدين هناك. غير أن وزير الخارجية السوري اعتاد على الاعتراف بجرمه بينما يسعى لتبرئة نفسه.
هذا وقد عبر الرئيس أردوغان عن امتنانه بقرار الرئيس ترامب بالتدخل العسكري في سوريا خلال ساعات المساء وأكد على استعداد تركيا لتقديم الدعم في حال تنفيذ ذلك. ولكن بعد عدة ساعات، أخذ الخبر القادم خلال ساعات الليل أبعاد مخطط التعاون الذي كانت تنتظره تركيا بالتزامن مع أبعاد الحدث الجاري. فقد أقدم الرئيس ترامب على إنزال ضربة هي الأشد بنظام الأسد منذ بدء الحرب في 2011 وحتى الآن دون الحاجة إلى التعاون مع أحد.
هل سيستمر ذلك؟
يرى الخبراء أن هذا التدخل العسكري لا يمثل إشارة على بدء تحرك عسكري أمريكي شامل ضد سوريا. والأصح هو أن مواصلة هذا التدخل مرتبطة بروسيا إلى حد كبير، وإيران بدرجة أقل. وإن تخلت روسيا عن الأسد فإن طهران لن تتخلى عنه وهو ما يعقد الموضوع أكثر. غير أن موقف روسيا سيكون حاسمًا مرة أخرى. وبالتالي سيكون من الصعب استمرار نظام الأسد وسوريا بالشكل الذي نعرفه كما كان سابقًا.
ترك برس