باستخدام روسيا والصين حق النقض في مجلس الأمن بشأن الصراع الدائر على الأراضي السورية، للمرة السادسة والخامسة على التوالي، يكون مصير حلب الشرقية قد تقرر من وجهة نظر الحلف الأسدي ـ الإيراني ـ الروسي، مقابل عجز القوى الإقليمية والدولية المناوئة لهذا الحلف عن فعل شيء لتغيير هذا المصير. الأمر الذي يعني، عملياً، التسليم للحلف المذكور بحقه في تقرير مصير حلب، بوصفها آخر مركــز حضري مهم على الحدود الشرقية لـ«سوريا المفيدة».
ولن تغير في هذه المعادلة، النبرة العالية لممثلي الدول الغربية في مواجهة موسكو التي سارعت إلى امتصاص هذه الموجة بإعلان سيرغي لافروف عن «وقف العمليات النشطة» للقوات السورية في شرقي حلب، تمهيداً للاجتماع المزمع مع الأمريكيين في جنيف يوم السبت. هذا الاجتماع الذي من المتوقع أن ينتج عنه توافق روسي ـ أمريكي جديد فحواه إفراغ حلب الشرقية من المقاتلين والأهالي، بلا قتال.
وهو ما يعني استكمال الخطة الأسدية للتغيير الديموغرافي الذي شمل مدناً عدة غرب دمشق وحمص. بكلمات أخرى: القوى الإقليمية والدولية التي كان يفترض أنها تسعى إلى الإطاحة بنظام الأسد، أو مساعدة المعارضة على الإطاحة به، تبذل جهدها اليوم لتأمين استسلام الفصائل المسلحة في حلب وخروجها، رفقة من تبقى من المدنيين، ليستعيد النظام سيطرته على شرق المدينة بلا قتال.
تبقى العقدة الوحيدة المستعصية، إلى لحظة كتابة هذه السطور، هل ستقبل الفصائل المسلحة بصفقة الاستسلام هذه؟ ونعرف أن تلك الفصائل التي أنهكتها الصراعات البينية، حتى في أشد ظروف الحصار قسوةً، خاضعة إلى حد كبير لإملاءات الجهات الراعية والممولة. والأمثلة السابقة، في الجبهة الجنوبية وفي «درع الفرات»، لا تبشر بخير. أضف إلى ذلك ضغط المسؤولية الأخلاقية عن حياة المدنيين المهددين بالموت إذا قررت الفصائل البقاء والصمود، هذا إذا جاز الحديث عن أي اعتبار يمكن أن تقيمه لتلك المسؤولية.
تأخر ثوار حلب كثيراً قبل أن يعلنوا توحدهم في إطار «جيش حلب» بعد التقدم السريع للميليشيات الشيعية الحليفة للأسد في الأحياء الشمالية من شرق المدينة. وهي وحدة شكلية (ربما أقل مستوى حتى من غرفة عمليات مشتركة) بالنظر إلى أن مفاوضات أنقرة مع الروس خاضها ممثلو الفصائل، وليس وفداً موحداً باسم جيش حلب. ومن المحتمل أن الهدف من تشكيل الجيش المذكور كان دمج مقاتلي جبهة النصرة لتفادي الطلب الروسي المدعوم أمريكياً وتركياً بإخراجهم من شرق حلب شرطاً لوقف القتال وإدخال المساعدات.
لكن هذه «الشطارة» انقلبت على أصحابها حين أصبح الروس يطالبون بخروج جميع المقاتلين، لا مقاتلي النصرة وحدهم. تنظر روسيا، على أي حال، إلى كل من يحمل السلاح ضد نظام الأسد بوصفه إرهابياً، في حين يضيف إليهم النظام المذكور كل معارضة سياسية أو مدنية أيضاً، بمن فيهم العاملون في المجالات الطبية والإغاثية والدفاع المدني، أما المدنيون في مناطق سيطرة فصائل المعارضة فهم «حواضن اجتماعية» للإرهاب، بما يجعل كل ما يتحرك في تلك المناطق أهدافاً مشروعة من وجهة نظر النظام وحلفائه وحاضنته الاجتماعية معاً.
الخلاصة أن القرار بالسيطرة على كامل مدينة حلب قد صدر من روسيا، وهي تسعى إلى إنجاز هذا الهدف في الفترة القصيرة المتبقية قبل انتقال السلطة في واشنطن إلى الإدارة الجديدة للرئيس المنتخب دونالد ترامب. وبالنظر إلى استسلام «المجتمع الدولي» وكذا ممولي المعارضة من القوى الإقليمية أمام البلطجة الروسية، قد يتم هذا الإنجاز بأسرع من المتوقع في حال نجحت صفقة التسليم بلا قتال، أي في غضون الأيام القليلة المقبلة.
من زاوية نظر إنقاذ حياة من تبقى من المدنيين في الأحياء الشرقية، سيكون ذلك تطوراً إيجابياً، مع العلم أن النظام لن يترك ما يعتبره الحاضنة الاجتماعية للإرهاب تهنأ بالنجاة من أذاه. هذا ما رأيناه في موجة النزوح من الأحياء الشمالية الشرقية، حين قام النظام باعتقال المئات منهم، غير المجازر التي ارتكبها بحق عشرات الفارين، وأكثرهم من النساء والأطفال، والقتل الانتقامي ممن لازموا بيوتهم بعد سيطرة الميليشيات على أحيائهم.
أما من وجهة نظر الثورة، فسوف يشكل الاستسلام المفترض انتكاسة كبيرة لا بد أن تنعكس على معنويات كل السوريين المعارضين للنظام. وإن كان الصراع لن ينتهي بسيطرة النظام على شرقي حلب.
بالمعنى الاستراتيجي ستعني سيطرة النظام على كامل مدينة حلب، انتهاءه عملياً من رسم حدود «سوريا المفيدة» الممتدة على طول الخط الواصل من دمشق إلى حلب، مروراً بحمص وحماة، لتبقى جيوب متفرقة ومعزولة في بعض أرياف تلك المدن الرئيسية، لا تشكل استعادتها مهمة ملحة، بقدر ما تشكل مناطق أكثر أهمية كمحافظة إدلب والمناطق القريبة من دمشق وصولاً إلى الحدود الأردنية في أقصى الجنوب.
تقع خارج «سوريا المفيدة» مبدئياً، المناطق الشرقية الواقعة تحت سيطرة تنظيم «الدولة» وكذا مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) الممتدة من أقصى الشمال الشرقي إلى بعض ريف حلب الشرقي والشمالي، وهي مناطق ذات غالبية كردية، وأخرى مختلطة عربية ـ كردية، وثالثة عربية لكنها تحت سيطرة الإطار التحالفي المسمى «قوات سوريا الديمقراطية» وتشكل وحدات الحماية (الكردية) عمادها الأساس. وأخيراً هناك الجيب الحدودي الذي يسيطر عليه الأتراك في الريف الشمالي لحلب، ويمتد من جرابلس إلى إعزاز عرضاً، ولم يتحدد عمقه جنوباً إلى اليوم.
ففي تلك المنطقة (منبج والباب وما يحيط بهما من قرى) تتنازع ثلاث قوى هي فصائل «الجيش الحر» المعززة بوحدات قتالية تركية، و«قوات سوريا الديمقراطية»، وتنظيم «الدولة». ومن المحتمل أن مصير هذه البقعة متروك لنتائج الصراع بين القوى المذكورة، وما يمكن أن ينشأ من تسويات بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة.
كما أن مستقبل العلاقة بين النظام ووحدات حماية الشعب (الكردية) غير محسوم، على الرغم من التحالف التكتيكي الذي جمعهما في السيطرة على الأحياء الشمالية الشرقية من مدينة حلب. فالنظام لن يقبل، على الأرجح، ببقاء عدة أحياء من المدينة تحت سيطرة الحزب الكردي الذي أعلن إدارته الفدرالية على مناطق سيطرته، وكذا بالنسبة لإيران التي لديها مشكلتها الكردية الداخلية.
سيكون لرأي موسكو الدور الحاسم في تنظيم العلاقة بين الطرفين، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الفصيل الكردي متحالف مع الولايات المتحدة، وأحدث الأخبار تتحدث عن احتمال تزويده بصواريخ «ستينغر» المضادة للطائرات المحمولة على الكتف. إذا تحقق ذلك سيكون معناه حماية المناطق الكردية من الطيران التركي، بما أنها لا تواجه خطراً من طيران النظام أو الطيران الروسي.
في حين يريد حزب الله الإيراني في لبنان السيطرة على جبال القلمون المحاذية للحدود اللبنانية، يحول دون ذلك العامل الإسرائيلي الذي لم يكف عن تذكير القوى المتصارعة على الأرض السورية بمتطلبات أمنها القومي، بواسطة غارات جوية أو صاروخية على مواقع في دمشق ومحيطها، كان آخرها قصف مطار المزة العسكري لشل عملية نقل مفترضة لـ«أسلحة دمار شامل» من سوريا إلى لبنان.
هناك أخبار متواترة عن انتشار سماسرة يعرضون بيع عقارات في حلب الشرقية، حتى قبل اكتمال سيطرة النظام عليها. وبالنظر إلى سوابق مماثلة في دمشق وحمص وغيرها من المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها، يمكن توقع محاولة إيرانية لتوطين شيعة في المناطق المنكوبة بما يخدم استراتيجية التغيير الديموغرافي التي يتشارك فيها النظام مع الإيرانيين.
هذا ليس من المبالغات إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن بشار الأسد بات يتحدث علناً وبصورة متواترة، في الأشهر الأخيرة، عن «تحسن التركيبة السكانية وانسجامها» بالقياس إلى ما قبل الحرب. ونفهم كلامه هذا إذا تذكرنا أن نحو ستة ملايين سوري، غالبيتهم الساحقة من الأكثرية السنية، تشردوا في المنافي، ومثلهم من النازحين الداخليين الذين يستبعد أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم بعد نهاية الصراع.
الخطة التي قدمتها مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية فيديريكا موغريني تتضمن حوافز لإنهاء الصراع بخصوص تمويل إعادة الإعمار الذي يقدر أن يكلف مئات من مليارات الدولارات. وهو ما لا يمكن لروسيا أو إيران، أو كليهما ومعهما الصين، أن يتحملوا أعباءه. هذا ما سيرغم الروسي على البحث عن توافق ما مع الأمريكيين والأوروبيين ودول الخليج العربية.
لكن جميع المذكورين باتوا أقرب إلى تقبل بقاء بشار الأسد في الحكم لفترة خاضعة للمساومات، مع إجماع جميع الأطراف على ضرورة الحفاظ على النظام تحت الاسم المخادع «مؤسسات الدولة». الخلاصة أن ما بعد حلب يراد له أن يكون استكمال سيطرة النظام على «سوريا المفيدة» وإجراء تسوية سياسية على أساس بقاء النظام.
هذه وصفة فاسدة وغير قابلة للحياة مهما بلغ جبروت الاحتلال الروسي ـ الإيراني، ومهما بلغ «المجتمع الدولي» من استسلام أمام منطق القوة الوحشية العارية.
منذ الآن شاعت توقعات عن تحول الحرب في سوريا إلى حرب عصابات طويلة لا نهاية لها. وهو توقع يملك كل أسباب الوجاهة، بالنظر إلى كل التجارب التاريخية التي ينهى فيها الصراع بسحق طرف لآخــر، من خلال تسويات الإذعان والاستسلام.
ليس فقط السلفيون الجهاديون يمكنهم الانتقال من حرب كلاسيكية إلى حرب السيارات المفخخة والاغتيالات والتفجيرات الانتحارية، بل كذلك غير إسلاميين أرادوا لبلدهم أن ينتقل من الوحشية الأسدية إلى دولة الحرية والكرامة، ويراد لهم القبول ببقاء نظام دمر البلد وباع أشلاءه لكل شذاذ الآفاق.
القدس العربي – بكر صدقي