من منا -نحن السوريين-لم يكتوِ بجمر تلك الحرب المستعرة التي أكلت البشر والحجر، ودمرت أحلامنا، وقضت على ربيع شبابنا ومازالت تعيث فينا فساداً.
صدفةً وأنا بزيارة لإحدى الصديقات في تركيا، دخلت علينا فتاةٌ صغيرة، وإذ بها عبير.. تتساءلون من عبير تلك؟!
قصة عبير تشبه قصص الأطفال الحزينة مثل سالي وكوزيت في مسلسل البؤساء، طفلة جميلة رقيقة، ذات عينين ساحرتين، تتربع قلب كل من عرفها. عرفتها في حلب عام 2013، كانت تلميذة في الصف الثاني بإحدى مدارس حلب المحررة.
لفت انتباهي اهتمام جدتها المفرط بها وحرصها على الحضور يومياً لجلبها وأخذها من المدرسة بلهفةِ أمٍ أنجبت طفلتها بعد صبر سنين، دعوتها لتناول القهوة في مكتبي لأستفسر عن أمرها ونعالج مع جدتها بعض الأمور التي من الممكن أن تؤثر على صحتها النفسية.
فأخذت جدتها تروي لي قصة عبير، والدموع تنسكب من عينيها كنهر فائض: “عبير قصتها بتبكي الحجر، أمها ماتت بحريق نشب بالبيت ومات معها أولادها التلاتة، نجت عبير بأعجوبة، بعد مدة استشهد أبوها باقتحام على جبهة الراموسة وبقيت عبير وحيدة مالها بعد الله غير بيت جدها وخالاتها”.
لم تستطع الجدة أن تكمل حديثها فقد غلبها الألم وأجهشت بالبكاء، هممت إليها أربّت على كتفها أهدّئ من حزنها، محاولةً تغيير الموضوع إلا أنها آثرت إلا أن تكمله، لتخبرني أن القصة لم تنتهِ والآلام لم تتوقف عند هذا الحد.
فبعد فقدانها لعائلتها حاولت جدتها وخالاتها تعويضها بكل حب واهتمام، لعلهنّ يستطعن تعويضها عن حرمان الأب والأم والأخوة، لكن الحياة لا تمشي على النحو الذي نتمنى، وللأقدار رأي آخر.
هذا ما قالته جدة عبير لتكمل قائلة: “يادوبنا بلشنا نشوف عبير تحسنت نفسيتها وتعلئت بخالاتها اللي عوضوها عن حنان الأم والأب حتى شاءت الأقدار أنه تستشهد خالاتها التنتين بنفس اليوم بقصف طيارة للنظام المجرم على مدرستهم” .
لم أستطع تمالك نفسي عندما رأيت تلك المرأة المكلومة تبكي بناتها الثلاثة وأحفادها الثلاثة وصهرها، وتلك الطفلة اليتيمة الحزينة ذات الحظ العاثر، فانهمرت دموعي بالبكاء من هول تلك القصة الحزينة.
يا إلهي كم مرّ على تلك الطفلة الصغيرة من أحداثٍ مؤلمة في مدة لم تتجاوز السنة، أي قلب يتحمل كل ما عانته، كم جلسة دعم نفسي يحتاج ذلك الملاك البريء حتى تتعافى ذاكرتها الملطخة بالأحزان والآلام.
أخذت عهداً على نفسي أن أبذل كل جهدٍ لأساعد تلك الطفلة بالتعافي من الآثار النفسية التي خلفتها الأحداث المؤلمة التي مرت بها، وبالفعل كانت عبير سببا كي نطلق منه خلاله برنامج دعم نفسي يشمل أطفال المدرسة كافة، لمساعدتهم على التعافي من الآثار النفسية السلبية التي خلفها لهم القصف والدمار والفقد والرعب.
رغم أن مآسي عبير لم تنتهِ فقد فقدت بعد أشهرٍ جدها بقصفٍ من قبل قوات النظام، ثم عمها الذي استشهد على جبهات القتال، إلا أن ما مرت به جعل منها فتاة قوية صبورة، احتضنت جدتها محاولةً التخفيف عنها فهي الأخرى أمٌّ ثكلى.
بعد أن هُجّرت عبير وجدتها من مدينة حلب أقامت فترةً في ريف حلب الشمالي، لتنتقل بعدها مع جدتها إلى تركيا، وتبدأ رحلة التعلم لتحقق حلم والديها وخالاتها بالتفوق والتميز، وكلّها أمل بمستقبل أفضل تنسى فيه ما كابدته في طفولتها، هذا ما قالته لي في نهاية زيارتنا، أدهشني وعيها ورزانة تفكيرها، تلك الطفلة الصغيرة، أصبحت فتاةً مفعمةً بالجمال والحياة والأمل.
هذه هي الحياة، تأخذ منا أغلى ما لدينا، حتى نعتقد أننا قد انتهينا ويشارف اليأس على تملكنا، لتأتي رحمة الله وتنتشلنا من الحضيض وتسمو بنا إلى الرفعة والعلا.
أما عن أطفال تلك الحرب المهلكة، فلهم الله، ثم ضمير كل مستطيع يساهم في تعويضهم عما فقدوه، لا يوفر جهدا في تقديم المساعدة لتعليمهم وتحقيق النجاح لمستقبلهم.
قصة خبرية / إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع