مع تقدّم “قوات سورية الديموقراطية” على محور منبج في المعركة الدائرة لطرد تنظيم داعش من المدينة، تمهيداً لطرد التنظيم من ريف حلب بالكامل، ظهرت تفاصيل كثيرة متعلقة بالمعركة، وبتركيبة القوات المتقدمة، وعلاقتها بقوات التحالف الدولي، ودارت نقاشاتٌ حول دور “قوات سورية الديموقراطية” باعتبار قوامها الأساسي من وحدات حماية الشعب الكردية، وأدوار باقي التشكيلات العسكرية في المنطقة، لكن الموضوع الذي أثار نقاشاتٍ أكثر كان موضوعاً لغوياً لا عسكرياً، وسببه إطلاق اسم مابوك على مدينة منبج، في البيانات والتقارير الصادرة بشأن المعركة. ومابوك هو الاسم الكردي لمدينة منبج، وهو غير معروف سابقاً وغير مألوف، وأثار ردات فعل عنيفة، حيث اعتبره بعضهم محاولة إضافية من الكرد لاستغلال تقدّمهم العسكري، وتلقيهم الدعم من تحالف القوات الأميركية لتكريد المناطق العربية.
ولأن الموضوع لا يتعدّى إطلاق اسم بدلاً من اسم في التداول اليومي، ولأنه تكرّر كثيراً في مناطق أخرى خلال العامين الماضيين، فهو يحتاج ربما للنقاش، بطريقةٍ أخرى أقلّ تشنجاً. وقد بدأ إطلاق التسميات الكردية على المناطق من كوباني، الاسم الكردي لمدينةٍ كان يعرفها السوريون باسم عين العرب، وحين نجحت وحدات حماية الشعب في طرد داعش منها، فوجئ السوريون (البعيدون) بأن للمدينة اسماً كردياً جميلاً، فردّدوه وتغنوا به، فيما كانوا يتغنون بأول انتصار على داعش، وتكرّرت قضية إطلاق التسميات الكردية على المناطق ذات الأسماء العربية، أو التي ألف السوريون أسماءها العربية، مثل سري كانييه وكركاميش وقامشلو، وغيرها.
وتعامل كثيرون من الكرد والعرب مع موضوع التسميات بحساسيةٍ مبالغٍ فيها، واعتبروا أن إطلاق التسميات تعبير عن رغبةٍ خفيةٍ في فرض سيطرة دائمة، وتغيير الطبيعة الديموغرافية للمناطق المقصودة. واعتبر مثقفون كرد أن أي اعتراضٍ على ذلك شوفينية عربية، وإنكار للحقوق الكردية ولبطولات المقاتلين الكرد في المعركة ضد الإرهاب.
المشكلة في هذا النقاش أن الجميع محق، فالكرد محقون بإطلاق اسم كردي للمدينة، والعرب محقون باستغرابهم واستنكارهم لتغيير اسمٍ عرفوه وألفوه، واستشهد كثيرون بأبيات الشاعر أبي فراس الحمداني التي يذكر منبج في كثير منها، ليثبتوا قدم الاسم الحالي للمدينة، وعدم أحقية الكرد بإطلاق اسمٍ بلغتهم عليها.
ما يجعل من أي اسم يطلق على منطقةٍ ما في سورية صحيحاً، وصاحبه على حق، طبيعة سورية وتاريخها الموغل في القدم، فلكل مدينة وقرية وبقعة جغرافية سجل تاريخي، حافل بالأحداث والتبدّلات، وكل منطقة مرّت عليها، عبر هذا التاريخ العريق، شعوب وقوميات ودول وحكّام، وأطلق كل شعب أسماءه الخاصة على المناطق، التي سكنها أو حكمها. لذلك، لمناطق سورية كثيرة أسماء عربية وأسماء كردية وأسماء سريانية وآرامية، وحتى أسماء رومانية وفارسية لبعض المناطق، وأي واحدٍ من هؤلاء يستطيع أن يستعيد الاسم القديم للمنطقة بكل ثقةٍ، لأنه يملك من التاريخ ما يثبت أن هذا الاسم كان مرتبطاً بهذا المكان، في حقبةٍ تاريخيةٍ ما.
بالطبع، لا يعني ذلك أية أحقيةٍ إضافيةٍ لأحد على حساب أحد، ولا يثبت شيئاً يخالف الواقع، لكنه حقيقي، ومنبج كان اسمها يوماً من التاريخ (مابوك)، كما كان لها أسماء أخرى، سريانية وآرامية، وعين العرب كان اسمها فترة قصيرة كوباني، لكن ذلك لن يغير من واقع الأمر شيئاً، فمنبج تبقى منبج، ومن يقود الحرب البرية فيها ضد داعش “قوات سورية الديموقراطية”، والتي سيكون مصيرها العامل الحاسم في مستقبل منبج ومستقبل سورية ومستقبل الكرد، لا الأسماء التي يطلقها هذا البيان، أو تلك الصحيفة.
من يعرف أسماء المناطق والقرى والمدن في سورية يعرف أن بينها أسماء آرامية، أكثر مما فيها من أسماء عربية، لكن ذلك لم يدفع أحداً إلى التفكير بأن ما تبقى من آراميين في سورية لديهم طموحات سياسية في هذه المناطق، وقد عمد حزب البعث، بعد عام 1963، إلى تغيير أسماء مناطق كثيرة، خصوصاً أسماء المناطق الكردية، لكن ذلك لم يغيّر من واقع الحال شيئاً، وبقي الناس، في تعاملهم اليومي، يستخدمون الأسماء القديمة نفسها، وبقي السكان كما هم بتركيبتهم الديموغرافية نفسها، وبطريقتهم نفسها في الحياة.
منبج أو مابوك، لا يهم، المهم أن داعش ستخرج منها مهزومةً، وستعود المدينة إلى أهلها وأبنائها.
العربي الجديد – علا عباس