يطرح مؤتمر جنيف كما هي العادة نسخة مقززة عن دور الدول الكبرى في استمرارية معاناة الشعب السوري، كما يدفع المؤتمر المشهد السوري العام نحو مزيد من الضبابية والتخبط عبر طرح آليات جديدة وسلات مقترحات شائكة من شأنها تمييع الأزمة وإطالتها إلى حين نفاذ الحرب السورية من ثمار عفنة تستفيد منها تلك القوى الدولية دون أي رادع أخلاقي يذكر !! كما هو حال الضباع التي تغمرها السعادة كلما ازداد أعداد الجثث من حولها .
ومن تلك النافذة المطلة على الجحيم السوري انطلقت الثلاثاء في جنيف الجولة السادسة للمحادثات السورية برعاية الأمم المتحدة، والتي من المقرر أن تكون مفاوضات غير مباشرة تحت وصاية ستيفان ديمتسورا وفريقه من أجل العمل على التوصل إلى (اللاحل) بين الوفود المشاركة.
وستركز مفاوضات جنيف الحالية بجولاتها الأربع على القضايا السياسية والإنسانية بحسب المبعوث الأممي الذي بدا متفائلا دون أي سبب وجيه. كما أشارت مصادر مطلعة بوجود وثيقة تخص الآلية التشاورية للمبعوث الأممي لسوريا بشأن المسائل الدستورية والقانونية، التي من المفترض أن ترد عليها المعارضة السورية في وقت لاحق.
وقال المبعوث الأممي إن الآلية ستضمن عدم وجود أي فراغ دستوري أو قانوني في أي مرحلة خلال عملية الانتقال السياسي المتفاوض عليها.
ومن جهته حول المؤتمر بادر نظام دمشق إلى إعاقة عمل المؤتمر قبل انطلاقه ووضع العصي بالدواليب عقب البدء بالمؤتمر، وذلك من خلال تصريحات رأس النظام الذي وصف محادثات جنيف بمجرد لقاء إعلامي، وبعيدا عن مدى إجرام الأسد وتفوقه على أعتى مجرمي البشرية فقد صدق هذه المرة !!
كما رافقت ساعات إجراء المؤتمر قيام النظام بتصدير عدة رسائل ذات مغزى إلى وفد المعارضة وداعميه، وتجلى ذلك عبر محورين أساسيين ..
– المحور الأول :
قيام قوات الأسد بغارات جوية استهدفت الثلاثاء مناطق في الغوطة الشرقية بريف دمشق ومنطقة الحولة المحاصرة بريف حمص ومناطق أخرى على الخريطة السورية، مما أدى إلى سقوط قتلى مدنيين بينهم نساء وأطفال .
– المحور الثاني :
إرسال دمشق جواري القصر الجمهوري لممارسة الدور الاعتيادي بقذف الشتائم على جميع الاتجاهات ، وهذا مايتوافق مع رؤية الأسد حول أحقية الحوار المتبادل بين الضحية والجلاد !! فقد قامت مراسلة إعلام النظام “ربى الحجلي” بإلقاء العبارات المشينة بحق وفد المعارضة حيث قالت “تواصوا بالعمالة والإرهاب”، وعندما توالى وصول بقية أعضاء وفد المعارضة بادرت الحجلي بتوجيه الشتائم ووصفتهم “بالمجرمين”، كما واصلت الصراخ قائلة “أقبح ما عندكم أظهروه”. مما أدى إلى طرد الحجلي نتيجة سلوكها السيء وسحب بطاقة التصريح الخاصة بتغطية المفاوضات. فهل بالإمكان لتلك العقلية المتحجرة القابعة في دمشق أن تسعى لإيجاد مخرج للأزمة السورية ولسان حالها يصف المتحاورين بالمجرمين والخونة ؟؟
وعلى الضفة الأخرى حيث تتواجد المعارضة السورية وللأسف مع مايفوقها عددا من وكلاء وقادة أقليمين ودوليين، حيث عبرت عن تمسكها بمطلب رحيل بشار الأسد عن السلطة في المرحلة الانتقالية، وهذا ماتم طرحه خلال مؤتمرات جنيف السابقة دون إحراز أي تقدم في هذه الملف المعقد الأوصال تحت وطأة ضغوطات القوى الكبرى، كما ترفض دمشق الخوض في غمار النقاش حول مصير الأسد بشكل مطلق.
وقال نصر الحريري رئيس وفد المعارضة حول هذه النقطة إن “مفتاح النجاح في هذه العملية هو الانتقال إلى سوريا حرة لا مكان فيها لا لبشار الأسد ولا للإرهاب “.
ومن ناحية أخرى هدد في وقت سابق وفد المعارضة بتعليق المشاركة رداً على استمرار جرائم النظام والتهجير القسري لسكان مدن سورية عدة، ولكن كما جرت العادة يصل إلى جنيف كما وصل إلى الأستانا مرغما تحت ضغط الدول الداعمة للمعارضة.
وبعيدا عن ترهات مؤتمر جنيف السادس واستحالة استنباض أي بصيص أمل من هذا المؤتمر، قامت الولايات المتحدة بإلقاء قنبلة من العيار الثقيل في أروقة المؤتمر من شأنها إحكام الحصار حول مقترحات وفد دمشق للمبعوث الأممي، كما رغبت واشنطن بطبع قبلة حارة على خد المملكة العربية السعودية كعربون شكر على تعاون السعودية في توقيع صفقات تجاوزت المئة مليار دولار.
والقنبلة عبارة عن وثائق مدعمة بالصور حول أنشاء الأسد محرقة بشرية في سجن صيدنايا لإزالة أثار إجرائمه البشع على مدى السنوات الماضية.
وتعود الصور إلى أبريل/نيسان 2017، وأبريل/نيسان 2016، ويناير/كانون الثاني 2015، وأغسطس/آب 2013، وتبدو فيها صور لأبنية كُتب تحت أحدها “السجن الرئيسي”، وتحت صورة أخرى كتب “محرقة الجثث المحتملة “. ومايرسخ في الأذهان وقاحة الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها المطلق للأنظمة الدكتاتورية في العالم هو إخفاء واشنطن تلك الوثائق عدة سنوات، مما يفتح المجال لآلاف التساؤلات حول زعم واشنطن بتطبيق الأمن والاستقرار العالميين وسعيها نحو تحقيق ذلك.
في غضون ذلك دعا وفد المعارضة السورية في مفاوضات جنيف إلى ضرورة معاقبة مرتكبي تلك الجرائم ضد معتقلي سجن صيدنايا، بينما ومن منطلق الاستهزاء بالقانون الدولي، أكدت وزارة الخارجية السورية الثلاثاء أن الاتهامات الأميركية بوجود “محرقة جثث” في سجن صيدنايا ” ادعاءات عارية عن الصحة”، ووصف مصدر مسؤول في الوزارة الاتهامات الأميركية بأنها “رواية هوليوودية جديدة منفصلة عن الواقع”.
وباعتقادي الشخصي بأن مايثير الغموض حول مصير الأسد المستقبلي هي تلك الإشارة القادمة من الأراضي الفلسطينية المحتلة !! وذلك رغم تجاوز الأسد الخطوط الحمراء الجديدة والتي رسمتها موسكو مؤخرا، وذلك من خلال قصف المناطق الأمنة المنبثقة عن اجتماعات الأستانا ولعدة مرات. وإن كان الأمر تم بتلقي تعليمات من طهران وبموافقة روسية على (مضد)، فالأمر بالمحصلة يسبب تشويها لصورة الكرملين في أنظار المجتمع الدولي كطرف ضامن لإيقاف إطلاق النار في تلك المناطق.
والإشارة بالغة الأهمية صدرت عن وزير الإسكان الأسرائيلي “يواف غالانت” الثلاثاء إنه حان الوقت لتصفية الرئيس السوري بشار الأسد، مشيرا إلى أنه “لم يعد له مكان بهذا العالم”.
ونقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” عن وزير الإسكان قوله إن “نظام الأسد نفذ عمليات قتل جماعي وحرق آلاف الجثث بعد إعدامها، وفقا لتسريبات الخارجية الأميركية” . ويتضح لنا هنا دقة التوقيت بتحريك واشنطن هذا الملف تزامنا مع تصريحات وزير الأسكان الإسرئيلي .
وبالاتجاه ذاته فمن كان يعول على الدعم المطلق للأسد من قبل موسكو باستحالة إقصاءه عن السلطة، فقد غفل تماما عن “حقيقة الروس” وبأن المصالح فقط هي من تدير عجلة السياسية الروسية !!
ولنستذكر ماجاء في صحيفة فاينشال تايمز الأمريكية بداية عام 2016 نقلا عن مصادر في الاستخبارات المركزية، بقيام الجنرال “إيغور سيرجون” مدير الاستخبارات العسكرية الروسية بزيارة لبشار الأسد لإبلاغه رسالة من “فلاديمير بوتين” مفادها “عليك التنحي جانباً”. لكن بشار الأسد رفض ذلك وبرر رفضه للروس بأنهم لن يجدوا أفضل منه ليحافظ على نفوذهم في سوريا، حيث قال لزائره بوضوح (لا مستقبل لروسيا في سوريا إلا ببقائه “رئيساً”). فالعميلة بين الأسد والروس عبارة عن جملة مصالح وفؤائد متشابكة تصب في مصلحة الإثنين، وفي حال شعور موسكو بضعف موقف الأسد في خدمة مصالحها ستقوم بنفسها بتنحيته.
ومن خلال رحلة التناقضات بين مايقال في الإعلام ومايجري خلف الكواليس، يتبين لنا مع مرور الوقت عمق التفاهم بين واشنطن والكرملين في جميع الملفات المطروحة للنقاش. وكما أوضحت من خلال مقالات سابقة بأن فوز ترامب بمقعد الرئاسة الأمريكية على عكس إرادة الناخبيبن الأمريكيين، جاء نتيجة لرغبة قادة الدولة العميقة في واشنطن لإفساح المجال للصديق المقرب من روسيا دونالد ترامب بالفوز من أجل دفع الروس نحو الهاوية عبر شعورها المطلق بالقوة ومن خلال خطة أمريكية شيطانية تمارس بأدق التفاصيل !! ولايسعنا الوقت هنا لإعادة ذكر الأسباب والدوافع حول تلك السياسة الأمريكية.
ولعل مايؤيد هذه النظرة المسبقة هو الأحداث المتراكمة في الولايات المتحدة حول علاقة ترامب وفريقه بالأستخبارات الروسية، وقيام بعض الأيدي الخفية في واشنطن بتلميع صورة ترامب والسماح له بإقالة مدير مكتب التحقيقات الاتحادي جيمس كومي الذي كان يقود تحقيق للوكالة في صلات محتملة بين حملة ترامب للرئاسة وموسكو.
كما ستقوم تلك الأيدي بالتعتيم على الضجة التي أثارتها صحيفة #الواشنطن_بوست ذكرت فيها نقلا عن مسؤولين أمريكيين سابقين وحاليين أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب كشف عن معلومات سرية للغاية لوزير الخارجية الروسي خلال أجتماعها الأسبوع الماضي ، وسيتم إغلاق هذا الملف أيضا.
عزيزي القارىء من البديهي أن تشعر بالارتياح عقب قيام الدول الكبرى بإقامة مؤتمرات دولية تحمل لافتات تحقيق السلام العالمي، ولكن يؤسفني بأن أخبرك بأن وراء الأكمة ماوراءها !! وبأن الإعلام الغربي والعربي عبارة عن جنود في رقعة الشطرنج العالمية والتي تحركها أصابع القوى الظلامية كما تشاء.
ففي عالمنا العربي وبعيدا عن التطمينات المحلية والدولية نقف على بعد شبر واحد من الموت أو الاعتفال بذريعة الإرهاب أو الحياة فقط !!!!
محمد فخري جلبي
المركز الصحفي السوري