على الرغم من كل ما قيل في دونالد ترامب، الملياردير المرشح رسمياً عن الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة الاميركية، وعلى الرغم من جميع مواصفاته البعيدة كل البعد عن مواصفات القيادي المتزن القادر على قيادة اقوى دولة في العالم، الا ان شعبيته لا تنفك تتصاعد، واسهمه الانتخابية ترتفع الى حد اصبحت الاستهانة في حظوظه لدخول البيت الابيض بمثابة انفصال عن الواقع.
وعلى الرغم من مراهنة كثيرين من الليبراليين والمثقفين الكبار في الولايات المتحدة على وعي الناخب الاميركي ساعة الحسم، وان المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون ستكون خيار اكثرية الاميركيين يوم الثامن من تشرين الثاني المقبل، الا ان عوامل خارجة عن المألوف قد تعدم هذا التفاؤل في مهده.
فقد اعلن مؤسس موقع «ويكيليكس» جوليان اسانج من ملجأه في سفارة الاكوادور في لندن، ان بحوزته معلومات وتفاصيل صادرها موقعه من البريد الالكتروني لكلينتون من شأن نشرها ان يطيح باحلام المرشحة الرئاسية وقد يؤدي الى اعتقالها ومحاكمتها.
ونظرا لأن اسانج لا يطلق عادة تهديدات لا ينفذها، تعتبر كلينتون اليوم في موقف لا تحسد عليه. وقد نشر «ويكيليكس» أخيرا مضمون نحو 19 الف رسالة الكترونية خاصة بالديموقراطيين، تكشف مساعي ومخططات كوادر الحزب وكبار مندوبيه للاطاحة ببرني ساندرز الذي كان ينافس كلينتون على البطاقة الحزبية.
ورد القيِّمون على حملة كلينتون الانتخابية امس بضراوة على تلميحات اسانج، فقال مدير الحملة روبي موك «ان روسيا تقف وراء تسريبات البريد الالكتروني، ولها من ذلك غاية واحدة هي مساعدة ترامب للفوز في انتخابات الرئاسة».
والسؤال الآن ما الذي يملكه اسانج ولم ينشره حتى الآن؟، ففي حال صح وجود مؤامرة يحيكها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لايصال صديقه ترامب الى كرسي الرئاسة الاميركي، سيعمد اسانج حتماً الى نشر كل ما يملكه عن كلينتون، وربما ينتظر المتآمرون اللحظة المناسبة لتوجيه ضربة قاضية لها كنشر ما يملكونه من معلومات قبل فترة وجيزة جدا من موعد الانتخابات لاحداث اضخم ضجة ممكنة وايصال مرشحهم بسهولة الى المكتب البيضاوي.
وقد ادت الـ19 الف رسالة التي توضح تآمر كوادر الحزب الديموقراطي مع كلينتون ضد ساندرز، الى استقالة رئيسة اللجنة الوطنية في الحزب الديموقراطي ديبي واسرمان شولتز من منصبها قبل ساعات من انعقاد المؤتمر الحزبي في فيلادلفيا الذي سيعلن الحزب الديموقراطي فيه هيلاري كلينتون مرشحة رسمية عنه في سباق البيت الابيض.
وتشير هذه الاستقالة بشكل واضح الى حجم الهزة التي تعرض لها الحزب الديموقراطي بسبب تسريبات ويكليكس. وبالطبع لم يتأخر ترامب في السخرية من الحزب المنافس له، فاعتبر ان «مؤتمر الديموقراطيين يتشقق قبل ان يبدأ».
ووصف ترامب المستقيلة شولتز بأنها اعطيت حجماً اكبر من حجمها الحقيقي في الشارع السياسي. وراهن ترامب على قدرته في استقطاب انصار ساندرز الذين خاب املهم في تفضيل حزبهم كلينتون على مرشحهم.
ووسط هذه المعمعة التي يعيشها الديموقراطيون، لا شيء يخفف وقع هذه الفضائح على الحزب ككل وكلينتون خصوصاً سوى تأكيد ساندرز مجددا على دعمه التام للمرشحة وعزمه على دعمها بكل ما أوتي لكي تصبح الرئيسة المقبلة للبلاد.
وفي ظل هذه الاحداث المتسارعة التي تنصب كليا في صالح ترامب، ينبغي اعادة النظر بدقة في المواقف التي صدرت عن المرشح الجمهوري في الآونة الاخيرة، فمنها يمكن رسم ملامح مستقبل العالم في عهده ابتداء من العام المقبل 2017.
تصريحاته الناقدة لحلف شمال الاطلسي (ناتو) وللدول الاوروبية الاعضاء فيه التي اتهمها بأنها تعتمد على الولايات المتحدة ماديا وعسكريا كي تدافع عنها بدل ان تنفق هي المزيد في هذا الاتجاه، هي مؤشر خطير جدا على ان اميركا ترامب ستكون مستعدة في اي لحظة لتجميد عضويتها في الحلف تاركة للدب الروسي حرية التحرك واجتياح ما يحلو له من البلدان الاوروبية والتهام ما يرغب به من اراض.
وما سيزيد من ازمة الناتو ايضا هو التقارب الحاصل بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان اثر محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. ففي حال نأى ترامب بجيشه عن الناتو، لا شك ان اردوغان سيخطو خطوة مشابهة. وستكون الدول الاوروبية الاطلسية حينها لقمة سائغة لروسيا كي تلتهمها.
وقد يتساءل البعض هل سيسمح الجيش الاميركي والكونغرس بمثل هذا التقارب الشديد بين واشنطن وموسكو؟ والجواب هو ان ترامب لن يبدأ ولايته فورا بتجميد عضوية بلاده في الناتو، بل حتما سيبدأها بتحالف عسكري مع بوتين ضد التنظيمات الارهابية في الشرق الاوسط واستخدام اسلحة دمار شامل بما فيها النووية ليس امرا بمستبعد عن هذين الرئيسين.
اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة يرى في ترامب فرصته لابتلاع كل ما يمكن ابتلاعه في المنطقة، كيف لا وقد وعد الملياردير اسرائيل بالقدس عاصمة لها. وليس بالامر البعيد حصول هجوم ثلاثي اميركي ـ روسي ـ اسرائيلي على ايران وميليشياتها في المنطقة بما فيها «حزب الله» في لبنان خلال الفترة بين 2017 و2019.
لا احد يعلم حجم الدمار الذي سيحل في بلدان الشرق الاوسط، ولا احد يعلم عدد الضحايا، لأن هذا الثنائي الاهوج لا يمكن تحديد تحركاته او التكهن بما يرمي اليه. كما ان كل المؤشرات تدل على ان بوتين سيحصل على مراده اقله في شرق اوروبا، وسيستعيد السيطرة على الجمهوريات السوفياتية السابقة التي استقلت عن موسكو عقب انفراط الاتحاد السوفياتي السابق.
ووسط هذه المستقبل الدموي الذي ينتظر شعوب الدول العربية، لن تكون الدول الاوروبية الكبرى بمنأى عن حروب اهلية ستشعلها هجمات متبادلة بين المهاجرين والسكان الاصليين.
نعم بإمكان الجميع التفاؤل بامكانية فوز كلينتون، ولكن جميع المؤشرات والمتغيرات الجيوسياسية (من انفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي، الى الانقلاب الفاشل في تركيا مرورا بالحشد العسكري الروسي على الحدود الغربية) تشير الى شبح اسود عملاق يخيم فوق الحضارة الانسانية.
وكما تنبأ وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر «ان طبول الحرب العالمية الثالثة تقرع ومن لا يسمعها فهو أصم.
جريدة المستقبل