قـــراءة فــي الــصحف
نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية مقالاً للكاتب الصحفي “أكرم الأحمد” يقول فيه، كانت سميرة الصباغ تجلس على الأرض عندما التقيت بها. وكان أول شيء لاحظته هو أن يديها ووجهها كانت سوداء تقريباً. كانت ترتدي فستاناً تقليدياً أخضر اللون تفوح منه رائحة الدخان. كانت عمرها في الخامسة والستين، وهي مجرد واحدة فقط من أكثر من 100.000 شخص من السكان السابقين لشرقي حلب، الذين أجبروا على مغادرة المنطقة التي كان يسيطر عليها الثوار، تحت طائلة التهديد بالإفناء من جانب النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين.
كانت الصباغ مشوشة. فقد قُتل أطفالها وكل عائلتها في حلب، باستثناء ابنة لها تعيش في إدلب، ليس بعيداً من هنا. وقالت وهي تشير إلى المحافظة السورية التي تقع في شمال غربي البلد حيث هرب العديد من السوريين المشردين: “لا أعرف كيف أذهب إلى إدلب”.
سألتها عن سبب السخام على وجهها، فشرحت أن الجو بارد جداً في حلب الآن، وأن الناس كانوا يعيشون في الشوارع لمدة أسبوع في انتظار بدء عملية الإخلاء. ولذلك كان على كل شخص أن يحرق الأحذية والمواد البلاستيكية -أي شيء يحصلون من أجل أن يبقوا دافئين، وهو ما ترك وجهها ويديها مغطاة بالسخام. وروت لي القصة وهي تذرف الدموع.
يتابع الكاتب، ذهبت بالسيارة بصحبة مصور من مكتب الأخبار الذي أديره في إدلب، في رحلة استغرقت أكثر قليلاً من الساعة. وفي مكان وقوف المركبات في محطة الوقود حيث وصلت الحافلات التي تنقل المبعدين، سمعت قصة بعد أخرى عما يحمله سكان حلب الشرقية من معاناة خلال حملة القصف الكارثي وحصار التجويع الذي مورس على الجيب الذي كان الثوار يسيطرون عليه -في صدمات تفاقمت حدتها بسخرية رجال الميليشيات الموالية للنظام من الذين يخضعون للترحيل وهم يغادرون المدينة. والآن، وقد أصبحوا عالقين في البرد القارس جداً حيث لا توجد لديهم أدنى فكرة عن الآتي، يحاول هؤلاء الناس، مكرهين، إعادة بناء حيواتهم الممزقة مرة أخرى.
كانت جمعية الهلال الأحمر العربي السوري واللجنة الدولية للصليب الأحمر قد نظمتا جلب الحافلات بعد توصل الثوار إلى صفقة مع الحكومة للانسحاب من شرقي حلب في مقابل توفير ممر آمن لعائلاتهم وغيرهم من المدنيين الذين خافوا من انتقام الميليشيات. وعندما غادروا الحافلات، كان الجميع يرتجفون من البرد. وكانوا جائعين؛ حيث قامت جهات إحسان بإعطائهم الفواكه ورزماً صغيرة من الطعام. وكانوا منهكين ومكتئبين عندما افترشوا الأرض ليتناولوا الطعام.
وكانت الجهات الأفضل تنظيماً هي مجموعات الثوار التي أرسلت حافلات كبيرة وصغيرة لإحضار عائلات المقاتلين ونقلهم إلى مكان آمن.
لكن المعظم لم تكن لديهم أي فكرة عن الوجهة التالية، فجلسوا على الأرض يناقشون خطوتهم التالية. وقال لي رجل متحدثاً عن بلدة قريبة من الحدود التركية غالباً ما تكون هدفاً لضربات طيران النظام السوري: “أسمع أن أتارب بلدة جيدة للإقامة. سأذهب وأبحث عن شقة”.
كان الصوت المبتهج الوحيد يصدر عن بعض الأطفال الذين يتصرفون وكأنهم هبطوا في الجنة. لكن الكبار كانوا صامتين ومرتبكين، كما لو أنهم خرجوا لتوهم من الأجداث.
حاولت بدء محادثات معهم بتقديم التهاني بالسلامة للناس المشردين داخلياً. لكن القصص التي رووها كانت أبعد من خيالي. ولبرهة، نسيت أنني صحفي؛ فقد تأثرت وجدانياً حتى أنني أردت أن أتقدم لأحتضنهم.
كان سامر النجار يرتدي سترتين من الجلد فوق ثلاث كنزات عندما قابلته. وقال إن حلب مثل جهنم: كان يتوقع أن يأتيه الموت في كل لحظة.
كان سامر النجار يرتدي سترتين من الجلد فوق ثلاث كنزات عندما قابلته. وقال إن حلب مثل جهنم: كان يتوقع أن يأتيه الموت في كل لحظة.
وروى النجار قصة سيدة لم يكن لديها مكان تعيش فيه، فولدت طفلاً في الشارع قبل وقت قصير من وصول الحافلات. وأضاف: “حصل ذلك بعد ثلاثة أيام من الانتظار. حملها الناس إلى الصندوق الخلفي لإحدى الشاحنات، حيث ساعدها أحد متطوعي الهلال الأحمر السوري في الولادة. وتدفقت الدموع من عينيه بينما كان يتحدث عنها. ولم يعرف شيئاً عن مصيرها أو مصير الوليد”.
“يضيف الكاتب، “بيت الأرامل” في مدينة إدلب هو عبارة عن شقة في الطابق الثاني تعيش فيها عشر أرامل. وليس ثمة أثاث -مجرد سجادتين باليتين وفرشتين وبعض البطانيات على الأرض، إلى جانب مدفأة قديمة جداً.
أمينة، البالغة من العمر 24 عاماً قتل زوجها، بسبب صاروخ سقط على منزلهم المؤقت الذي كانوا يقيمون فيه في شرقي حلب. وتمزق جسد الصهر إلى أشلاء لدرجة أن أمينة لم تستطع دفنه.
وقالت: “استطعت أن أعثر على قطع صغيرة منه. وواصلت البحث عن أجزاء جسده لأيام عدة”. وأضافت أنها عثرت، بعد يومين من توقف القصف، على قدمه على سطح منزل أحد الجيران.
لأمينة ثلاثة أبناء تتراوح أعمارهم بين العام والأربعة أعوام، وتقول إنها لا تعرف كيف ستربيهم وحدها. وتضيف: “إنهم يستمرون في سؤالي متى سيعود والدهم. إنهم لا يصدقون أنه مات”. وتضع يديها على وجهها لتخفي دموعها وتقول: “لو أنني استطعت فقط أن أدفنه”.
الآن، أصبح علي البالغ من العمر 19 عاماً رب العائلة. وكان هو ووالده يديران عملاً خاصاً حيث كانا يبيعان الخضراوات على عربة في شرق حلب إلى أن جعل الحصار من المستحيل عليهما تعزيز مخزونهما. لكنه جرح في الحرب وأصبح الآن عاطلاً عن العمل -وتوسل إلي لكي أساعده في الحصول على عمل. وقد انحفرت مغادرتهم من شرقي حلب أثناء عملية الإخلاء في مخيلته -والتي يشير إليها على أنها “رحلة الإذلال”.
لم يقو علي على النظر في عيني عندما كان يصف ما حدث. بعد الصعود إلى الحافلات في شرقي حلب والعبور إلى داخل الأراضي الحكومية، بدأ بعض رجال الميليشيات الموالون للنظام في البصق على نوافذ الحافلة. واعتلى آخرون الحافلات وخلعوا سراويلهم وطلبوا من النساء النظر إلى أعضائهم التناسلية. وقال: “لقد غضبت وضربت رأسي بجسم الحافلة من الداخل وأردت أن أقتل نفسي”. لكن والدته قالت له: “انس هذا. إنهم أشخاص تافهون. ويجب ألاّ نأخذهم على محمل الجد”.
ومثل الكثير جداً من الآخرين، كانت العائلة قد انتظرت الحافلات ثلاثة أيام في البرد القارس لتأخذهم إلى خارج المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في شرقي حلب. ولم يكن المكوث خياراً لأم علي. وقالت إنها لم تكن تخاف من الموت، لكنها أرادت الحفاظ على شرفها وشرف ابنتها. ومن دون أن تقول كلمة، كان مكمن خوفها هو احتمال التعرض للاغتصاب.
وقالت: “كنت قلقة على ابنتي وعلى نفسي”. كان زوجها وصهرها متعاطفين مع المعارضة. وقالت: “كنت قلقة من أن يعتقلونا وينتقموا منا”.
أكـرم الأحمـد
الـمركز الـصحفي الـسوري _ صحـف