يتباهى جهاز الأمن بأنه نجح أن يفرض على حماس الحفاظ على الهدوء على طول الجدار في الأسبوعين الأخيرين، بما في ذلك إلغاء استثنائي للمظاهرات الجماهيرية في نهاية الأسبوع. ولكن هل خلقت حملة “الحزام الأسود” بالفعل انعطافة جوهرية في الاحتكاك مع قطاع غزة، أم أن الهدوء في الأسبوعين الأخيرين هو خطوة تكتيكية أخرى من جانب حماس؟ الاختبار الأول لذلك سيكون في نهاية الأسبوع القريب القادم: يوم الجمعة سيحيي الفلسطينيون، مثل الإسرائيليين، 72 سنة على 29 تشرين الثاني 1947، اليوم الذي تقرر فيه في الأمم المتحدة تقسيم البلاد. إذا ما ساد الهدوء على طول الجدار، أو جرت مظاهرات رمزية فقط، فسيكون هذا مؤشراً واضحاً على تغيير محتمل. إذا لم تنتقل أيام الغضب في الضفة إلى قطاع غزة، فسيكون هذا مؤشراً إيجابياً أكثر. عندها فقط سيكون ممكناً البدء بالتفكير بتعابير “نافذة الفرص” لتسوية بعيدة المدى في غزة.
عندنا يسارعون إلى الاحتفال بالإنجازات التكتيكية، ولكن تلك النشوى بعد الحملات العسكرية الناجحة تؤدي دوماً عندنا إلى أخطاء سياسية في فهم المجتمع الفلسطيني. دوماً يخيل إلينا أن الحسم في معركة تكتيكية ليس انتصاراً شاملاً. فالآن، مثلاً، نسينا بأن هدوء الأسبوعين الأخيرين جاء بعد سنة ونصف من المظاهرات المتواصلة كل نهاية أسبوع، التي شارك فيها بين 5 آلاف إلى 50 ألف نسمة. إسرائيل، القوة العظمى الإقليمية، لم تنجح في لجم العربدة التي جعلت الحياة في غلاف غزة قاسية لا تطاق. فعندما سجل في الطرف الآخر أكثر من 300 قتيل وآلاف الجرحى، فمن المحتمل ببساطة أن يكونوا هناك يعيدن احتساب المسار فقط.
من غير المستبعد أن حماس حرصت على إلغاء المظاهرات على الجدار منعاً للإصابات بنار الجيش الإسرائيلي، مما كان يسمح للجهاد الإسلامي بأن يناكف مرة أخرى قولتها ويطلق النار نحو إسرائيل. كما أنه من غير المستبعد أن يكون الهدوء الذي فرضته حماس على المنظمات الأخرى في غزة ينبع من اعتمالات داخلية في حماس، بعد أن صفت إسرائيل عنها حجر عثرة في شكل مسؤول الجهاد أبو العطا، الذي لم يقبل إمرتها وتصدرها. فحماس ترى نفسها اليوم كجيش بكل معنى الكلمة، وليس كذراع عسكري لمنظمة إرهاب. وللتجسيد على ذلك، يعتبر محمد ضيف في بيانات حماس كرئيس هيئة الأركان العامة لكتائب عز الدين القسام وليس كقائد الذراع العسكري، كما كان يسمى في الماضي. أما الجهاد الإسلامي فقد رفض الدخول تحت سلسلة القيادة هذه.
على الأرض نفسها هناك بضعة مؤشرات مشجعة أخرى. فالقوى اللاجمة لحماس أطلقت في أثناء الأسبوعين الأخيرين النار على متظاهرين حاولوا الخروج عن التعليمات لعدم الدخول إلى الأراضي الإسرائيلية أو إلقاء عبوات على الجنود، بل وأوقفت إطلاق البالونات وإحراق الحقول في إسرائيل. أما قادة الوحدات الذين لم يقبلوا بإمرة المنظمة فقد اعتقلوا. تتصرف حماس بشكل متصالح أيضاً مع السلطة الفلسطينية: لشدة خيبة أمل مكتب أبو مازن في رام الله، وافقت حماس على قبول شروطه لإجراء الانتخابات، بلا تحفظ تقريباً، بما في ذلك الموافقة على السير إلى انتخابات للبرلمان في الضفة في إطار قائمة لا تتماثل مباشرة مع منظمة حماس.
غير أن الجيش لا يكتفي بالإنجاز العسكري، بل ويدفع القيادة السياسية لتثبيت الإنجاز بخطوات مدنية داعمة، معناها تحسين الوضع الاقتصادي في قطاع غزة وعملياً تثبيت حكم حماس في القطاع. أن يكون الجيش راضياً عن الإنجاز العسكري هو شيء، واللعب بالمادة المتفجرة السياسية شيء آخر. فهذا لم يعد ملعب الجيش. من قال إن حماس بالفعل غيرت السياسة؟ من قال إن على إسرائيل أن تطور قبضتها في قطاع غزة؟ هدف حماس – قبل أن تعالج “الكيان الصهيوني” – هو أن تسيطر قبل ذلك على السلطة الفلسطينية، على الجمهور الفلسطيني كله، سواء بالانتخابات أم بواسطة الإرهاب. لهذا الغرض تجدها تحتاج إلى وقف نار بعيد المدى كي تترسخ. هل تشتري إسرائيل هدوءاً للمدى القصير، يؤدي إلى نشوء عدو أقوى بكثير للمدى البعيد؟ وهل هذه بالفعل تعليمات القيادة السياسية للجيش؟ أم أن الجيش وفي ظل عدم وجود قيادة سياسية يقود قرارات ذات آثار سياسية بعيدة المدى؟
بقلم: اليكس فيشمان _ القدس العربي