يبدو أن الغموض الذي يلف أصل العلويين وعقيدتهم الدينية متعمداًَ، إذ يمارس العلويون ما يعرف بالتقية، وهو مصطلح يعني إخفاء المرء لحقيقة معتقداته لتفادي التعرض للاضطهاد من قبل أصحاب الديانة السائدة، شأنهم في ذلك شأن معظم الطوائف المتفرعة
في صيف عام 1992، استقليت سيارة أجرة “فارهة” من دمشق إلى عمان. وكان نوع سيارة الأجرة مهماً، فالفارهة منها توفر خدمات إضافية عند الحدود لتفادي الإذلال المخصص للرجال السوريين كلما سافروا إلى الخارج. وعند وصولنا إلى الحدود السورية، خرج السائق من السيارة مع وعد بختم أوراقي خلال خمس دقائق. لكن نظرة أسف علت محياه عند عودته، وقال “أخشى أنه عليك أن تأتي، فقد سألوا عن خدمتك العسكرية.” لم يقلقني ذلك، إذ كتب في جواز سفري أنني معفي من الخدمة العسكرية، لكن الرائد أصر على رؤية دفتر العسكرية، فقلت أنه ليس معي وأجابني “حسناً، لا يمكنك مغادرة البلد إذاً”. حاولت أن أشرح الأمر لكنه رفض الاستماع. فأخذني السائق إلى رئيسه، وهو عقيد في الجيش، كان جالساً خلف مكتب كبير تحت صورة للرئيس حافظ الأسد كالعادة. تحدثت إليه وشرحت ظرفي، وأريته جواز سفري الذي بالكاد نظر إليه وقال بلهجة دمشقية “هذه الوثيقة غير كافية. عليك إحضار دفتر خدمة العلم الرسمي وإلا لن تعبر الحدود”، اعترضت قائلاً “لكن دمشق تبعد أكثر من ساعتين عن هنا”، فكان رده “ليست مشكلتي” واستدار نحو الرجلين الجالسين أمام مكتبه في إشارة إلى انتهاء الحديث.
في طريقنا للخروج سألني السائق “ألديك واسطة؟”، فقلت “نعم، لكنه في دمشق ولا أعرف سبيلاً للاتصال به”. فما كان من سائقي الحاذق إلا أن تحدث مع عنصر أمن دلني إلى هاتف على سطح طاولة مكتب، فاتصلت بواسطتي وهو جنرال في الجيش تربطني به علاقة وثيقة. وعدني بأن يتصل بالرائد وطلب مني الذهاب إلى مكتبه بعد عشر دقائق. عند دخولي المكتب في المرة الثانية، نهض الرائد ودار حول مكتبه متجهاً نحوي مع ابتسامة عريضة، وقال بلهجة علوية سافرة “لِم لَم تخبرني أنك صديق الجنرال؟ أرجو أن تقبل اعتذارنا وأوصل سلامنا إلى الجنرال”، ثم أمر مساعده بإنهاء أوراقي في الحال واصطحبني إلى الباب حيث صافحني وودعني.
تفاجأت بتغير لهجة الرائد، فقد بدا دمشقياً في البداية، وكان اسمه المكتوب على الباب يشير بقوة إلى أنه ليس علوياً. ولكن بعد تدخل واسطتي تحول إلى لهجة كبار الضباط في الجيش والمخابرات السورية وكأنه يعلن للملأ أنه “ينتمي لهيكل السلطة ذاك”.
كان توتر الرائد عاملاً مشتركاً بينه وبين العديد من المسؤولين الرفيعين غير العلويين وهم يكافحون لشق طريق لهم في ظل الهوية العلوية الطاغية للنظام. أحياناً كان تغيير اللهجة هو كل ما يلزم، وفي أحيان أخرى كان عليهم أن يقبلوا بالتنازل عن سلطتهم، فثمة روايات عن تخلي جنرالات رؤساء فرق في الجيش عن سلطتهم لصالح جنود علويين برتبة مساعد أول. ومن خلال تلك الممارسات وغيرها تلمس الناس الطائفية المنتشرة في نظام الأسد، حيث يسيطر النظام بشكل هائل انطلاقاً من الخوف وبعض الولاء، وهو ما مكن الأقلية العلوية من حكم الأكثرية السنية. لكن النظام استغل أيضاً أيديولوجية علمانية مبنية على أسس حزب البعث، وهو منظمة سياسية قومية حكمت سوريا منذ عام 1963. إذاَ استطاع نظام الأسد تغطية نزعاته الطائفية بقناع العروبة والعلمانية، ووعد السوريين بالمساواة وبقضية كبرى ليؤمنوا بها.
فكان أن جاءت الاحتجاجات الشعبية في آذار 2011 وتصعيداتها بالحرب الأهلية التي ما تزال دائرة اليوم لتخل بذاك التوازن، لكنه ما زال فعالاً، فمعظم الثوار من السنة، وهم مدعومون سراً من قبل الأنظمة السنية المحافظة في الخليج وأيضاً من شبكة دولية من المنظمات السنية المتشددة. وما زال جل اعتماد نظام الأسد على فرق الجيش التي يسودها العلويون، وعلى قوات الشيعة القادمة من لبنان والعراق وإيران وباكستان وأفغانستان. إلا أنه يستفيد أيضاً من الرضوخ المستمر الذي تبديه الطبقة المتوسطة في المدن، والتي تخشى من توسع سيطرة الدولة الإسلامية في شرق البلاد، وكذلك ينتفع من ولاء أعداد كبيرة من رجال الأعمال وموظفيهم المرتبطة مصالحهم ارتباطاً وثيقاً بالنظام. هذا الوضع المعقد هو نتيجة تاريخ طويل كان العلويون فيه الضحية، وتاريخ أقصر تلاعب فيه آل الأسد وصحبهم وحلفاؤهم بالسلطة.
العلويون (أو النصيريون) هم طائفة صغيرة عاش أهلها في ضيع على جبال سوريا الساحلية لأكثر من ألف عام. في ظل غياب إحصائيات موثوقة يقدر عددهم اليوم بحوالي بمليونين، أي قرابة 12 بالمائة من تعداد السكان. هاجر العديد منهم إلى المدن وخاصة دمشق حيث يسهل الحصول على وظيفة في الجيش أو الأمن، في حين اشتهر قسم منهم مؤخراً من خلال تولي مناصب بارزة في المجالات الأكاديمية والإعلامية والفنية والأدبية. وطبعاً هناك العلوييين الاثنين الذين احتفظا بمنصب الرئاسة منذ عام 1970، الأب وابنه.
ويبدو أن الغموض الذي يلف أصل العلويين وعقيدتهم الدينية متعمداًَ، إذ يمارس العلويون ما يعرف بالتقية، وهو مصطلح يعني إخفاء المرء لحقيقة معتقداته لتفادي التعرض للاضطهاد من قبل أصحاب الديانة السائدة، شأنهم في ذلك شأن معظم الطوائف المتفرعة. إلا أنه من المعروف أن العقيدة العلوية تجمع ما بين عناصر الإسلام شديد التشيع مع الصوفية والرمزية المسيحية ومراسمها والغنوصية وعناصر من الأديان القديمة في سوريا. والعنصر الشيعي السائد فيها ينبع من الأحداث التي تلت وفاة الإمام الحادي عشر و”اختفاء” ابنه المهدي الإمام الثاني عشر في سامراء في العراق عام 873م. وكان الاعتقاد بأن مؤسس الطائفة العلوية محمد ابن نصير هو “باب” الإمامين قبل أن يؤسس طائفته. وقد تمت إعادة إحياء الرابطة الشيعية عام 1973 عندما أعلن الملا ذو الشخصية الكاريزمية موسى الصدر، الذي سافر من إيران إلى لبنان لإعادة إحياء المجتمع الشيعي هناك، أن العلويين هم شيعة بحق.
ومع هذا الإرث، تغدو عدائية الأغلبية السنية نحو العلويين غير مستغربة. فبعد مناطق العلويين الأصلية وعادتهم في الكتمان جعلتا تشويه معتقداتهم والمبالغة فيها أمراً سهلاً، ولم يعترف بهم العديد من أئمة السنة كمسلمين حتى، كما شُنت ضدهم عدة حملات عقابية ما بين القرنين الثاني عشر والعشرين قُتل فيها الرجال وتم سبي النساء والأطفال وتدمير القرى. وتتجلى الندبات التي خلفها ذاك التاريخ من القمع عندما تتعهد كبار الشخصيات العلوية بعدم السماح بإذلال قومهم مرة أخرى. تغير موقفهم هذا فقط بعد احتلال فرنسا لسوريا عام 1920، إذ قسم الفرنسيون الدولة إلى أربع دويلات من مبدأ فرّق تسُد المعتاد: دولة دمشق، دولة حلب، الدولة العلوية، ودولة الدروز. وقد أدت السيادة النسبية التي منحها الفرنسيون للعلويين إلى رغبة القادة العلويين بتعميق الفصل بين منطقتهم عن غيرها، إلا أن الغلبة كانت لانتمائهم لسوريا في النهاية وعادت الدولة العلوية إلى الجمهورية السورية في 1936
كما كان لأمر آخر قام به الفرنسيون تأثير كبير على مستقبل العلويين، وهو السياسة التي اتبعوها في تجنيد أعضاء من الأقليات في جيش جديد من عشرة آلاف شخص عرف بالقوات الخاصة لبلاد الشام، عملت كقوات مساعدة للجيش الفرنسي، كان العلويون يشكلون ثلثه، وغدت تلك القوات لاحقاً نواة الجيش السوري بعد الاستقلال عام 1946. وفي الفترة ما بين 1946 و1963 لم تكن السياسة الرسمية هي تفضيل الأقليات، إلا أنهم بقوا يشكلون أغلبية قوات الجيش، مع تركز العلويين في فرق المشاة.
بالرغم من ذلك كان ثمة تطور سياسي وقع بعد الاستقلال هو ما سهل صعود العلويين إلى مقاليد السلطة، وذلك عندما حاول كل من الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان يدعو إلى سوريا العظمى التي تضم الللبنانيين والفلسطينيين ومجموعات أخرى في الهلال الخصيب، وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يهدف إلى دولة عربية متحدة تمتد من المغرب إلى عُمان، حاولا استمالة الأقليات المهمشة انطلاقاً من التاريخ أو اللغة كقاسم مشترك عوضاً عن الديانة.وكان حزب البعث الذي تأسس في دمشق عام 1947 من قبل مجموعة من المفكرين فرنسيي التعليم المنحدرين من خلفيات دينية مختلفة، كان نشطاً بشكل ملحوظ في ضم أفراد من الأقليات خاصةً من المجتمعات الريفية المحرومة، وقد ضم وهيب الغانم (أحد مؤسسي الحزب) عدداً من العلويين، كان من بينهم الشاب حافظ الأسد.
بحلول منتصف الخمسينات من القرن الماضي أصبح حزب البعث يشكل تحدياً أمام الأحزاب التقليدية البرجوازية في مجلس الشعب، وينافس الأحزاب الأخرى المتطرفة في المجتمع. وبعد عدة إخفاقات أدرك قادته أن ضم أعضاء من الجيش سيكون أكثر فعالية من الاعتماد على صناديق الاقتراع، وكانت صفوف الحزب تزخر بالأعضاء الجدد المتحمسين معظمهم من الأقليات. فغيرت هذه السياسة الجديدة موازين القوى سريعاً داخل الحزب، وتبعها خلافات حادة بين الجيل المؤسس المكون في معظمه من المتمدنين المتعلمين، والقاعدة العسكرية والريفية، بلغت ذروتها بعد قرار القيادة بالالتزام بمرسوم عبد الناصر بحل جميع الأحزاب السورية كشرط لاتحاد الدولة مع مصر عام 1958.
بعد الوحدة آل مستقر عدد من الضباط السوريين في مصر، وبعد حل الأحزاب والسخط الذي شعروا به جراء ذلك، أسست مجموعة منهم هيئة عسكرية سرية بهدف إعادة الحزب والتخطيط لانقلاب في سوريا. كان ثلاثة من أعضائها الستة الأصليين من العلويين: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد. تغير تركيب الهيئة عدة مرات إلا أن أعضاءها سيطروا على السياسات السورية في الفترة بين 8 آذار 1963 عندما قام الانقلاب الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، حتى 10 حزيران 2000، عندما توفي حافظ الأسد. ويعد هذا إنجازاً عظيماً باعتبار أنه لم يُعلن قط عن وجود الهيئة وأن السيطرة على سوريا أمر صعب للغاية. وأكبر الإنجازات طبعاً هو أن حافظ الأسد الذي استطاع حكم سوريا بمفرده لمدة ثلاثين عاماً قد نجح بتسليم مقاليد الحكم لابنه بشار رغم الصعوبات الجمة.
كانت سنوات حزب البعث الأولى في السلطة غير مستقرة، ويعزى ذلك جزئياً لتحديات خارجية، منها العلاقة الحساسة مع عبد الناصر، والانفصال غير الودي عن حزب البعث العراقي، والهزيمة النكراء أمام إسرائيل عام 1967، وظهور وتحول منظمة التحرير الفلسطينية قبل صراعها المميت مع النظام الهاشمي في الأردن عام 1970. وفي خضم كل تلك الأحداث، حافظت الهيئة العسكرية على سيطرتها. لم يكن واضحاً إذا ما تعمد علويو الهيئة تبني أجندة طائفية أم لا، فالدلائل المتوفرة تشير إلى كلا الاحتمالين، إذ نرى من جهة أن الضباط العلويين الأصغر عمراً والأكثر جرأة قد صعدوا إلى الرتب العليا من الجيش، ومن جهة أخرى نرى أن ضباط الهيئة قد تآمروا ضد بعضهم بالتعاون مع أناس غير علويين في صراعهم على السلطة. وقد نجح الضابطان الأصغر جديد والأسد بطرد زميلهما الأكبر عمران عام 1966، وأصبح الأسد رئيس دولة سوريا في تشرين الثاني 1970، وتم اغتيال عمران بعد عامين، وعزل جديد وحبسه بلا محاكمة حتى وفاته عام 1993.
ومع إحكام حزب البعث قبضته على السلطة كان واضحاً أن هناك حملة للتخلص من الأيديولجيات غير المرغوب فيها ضمن الجيش وأجهزة الأمن، فقد أُجبر مئات الضباط المؤهلين من السنة والمنحدر معظمهم من الطبقة المدنية المتوسطة على التقاعد، أو نُقِلوا إلى وظائف مدنية، وذلك بين عامي 1963 و 1967. وقد أعزى كثيرون هزيمة الجيش السوري السريعة والمدوية عام 1967 إلى غياب الضباط ذوي الخبرة. وأصبح التخلص من غير العلويين جلياً أكثر بعد تولي الأسد السلطة.
وبالرغم من ذلك لم تكن كل القرائن تشير إلى استحواذ طائفي على السلطة. فقد استشعر المحللون في السبعينات والثمانينات، أمثال الصحفي اللبناني سليم اللوزي الذي قُتل عام 1980 ربما بسبب كتاباته عن النظام السوري، استشعروا عمليات تسنين وترويج للبرجوازية في الصفوف الجديدة من العلويين المتمدنين، وكانت هناك علائم تغييرات تدريجية في تصرفاتهم: من صلاة العلويين في الجوامع، وصوم رمضان وتخليهم عن لهجتهم الجبلية، مما ضيق الهوة بين علويي المدن وأهلها من السنة. كما كان هناك ارتفاع في نسبة الزيجات بين العلويين والطبقات العليا من السنة، أشهرها زواج بشار حافظ الأسد من امرأة سورية-بريطانية تنحدر عائلتها السنية من حمص.
وقد أدت هجرة العلويين إلى المدن إلى توسع طبقة التجار ورجال الأعمال، وأخذ بعض أفراد العائلة الحاكمة وعوائل قيادات الجيش والأمن يكتنزون ثروات هائلة، مستفيدين بشكل مباشر من حماية أقربائهم في السلطة ومن المعاملة التفضيلية في مجالات العمل والاستثمار، فتكاثرت قصص فسادهم وكان الغضب من استحواذهم على الثروات عاملاً مهماً في الحرب الأهلية. إلا أن السيطرة على الجيش بقيت في لب منظومة التفضيل الطائفي، إذ أنه أضمن أساس للنظام، لذا تم إنشاء قوات خاصة معظمها من العلويين، أهمها الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، بعد حل وإعادة هيكلة سرايا الدفاع الشهيرة التابعة للأخ الأصغر لحافظ، رفعت الأسد، الذي حاول الانقلاب على أخيه عام 1984 عندما كان الأخير في المشفى. وهكذا تزايد عدد أجهزة الأمن في عهد حافظ، تُرفع كل تقاريرها مباشرة إلى الرئيس درءاً لأي تآمر وتنسيق بين تلك الأجهزة ضده.
هذه الهيكلية المعقدة هي تركة حافظ الأسد لابنه بشار، الذي سارع بدوره للتخلص مما كان يعرف بالحرس القديم الخاص بوالده، ورفع رتب مجموعة أصغر عمراً من داعمي الجيش، كان معظمهم أفراد عائلته. كما عزز من نظام الدولة الرأسمالي إلى السوق الحر، وهو النظام الذي أسسه والده بشيء من التردد، وفتح السوق لأصدقائه وأصدقائهم بصرف النظر عن الطائفة. وكادت المحسوبية أن تصبح سياسة رسمية، شجعت على الولاء للنظام ووسعت الهوة القائمة أكثر بين الطبقة الغنية والفقيرة. ويمكن أن نعتبر انتشار التدين بعد سنة 2000 بمثابة اعتراض على مغالاة النظام، خاصة عندما نرى أن ذكرى القمع الذي مارسه حافظ ضد الإسلام المسلح، والذي آدى إلى تسوية حماة بالأرض ومقتل ما بين 10 آلاف إلى 20 ألف شخص فيها عام 1982، ما زالت تقلب مواجع السوريين.
أثبت بشار قصور خبرته في التخطيط الماكر مقارنة بأبيه، وهو عيب كان جلياً بنظر حافظ الذي اختار أخا بشار الأكبر، باسل، كوريث له، لكنه أجبر على بشار بعد وفاة باسل عندما تحطمت سيارته عام 1994. وحيث حرص حافظ على إبقاء التوازن في سياساته، جاءت تصريحات الابن المتسرعة، وأحياناً المتعجرفة، ليخسر بسببها ثقة السوريين الذين توسموا فيه الإصلاح، وكذلك المجتمع الدولي الذي كان متحمساً له في البداية بسبب تعليمه الغربي ونظرته الحديثة المستقبلية. ونجح خلال عشر سنوات في هدم ما استغرق أباه أربعين عاماً لبنائه، وقضى على كل محاولات الديمقراطية التي قام بها المثقفون السوريون الذين شجعهم من قبل. وأجبر جيشه على الخروج من لبنان، الذي كان تحت سيطرة أبيه منذ عام 1976، بعدما ثبت تورط نظامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، كما بدت ردات فعله متخبطة مراراً حيال الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، إذ غير تحالفاته ودعم المنظمات المتطرفة السرية، الأمر الذي انقلب عليه فيما بعد. ولعل أكبر كارثة من منظور السيادة كانت تنازله عن قدم المساواة مع إيران لقاء مكاسب زهيدة، بعدما تعنّى أبوه للمحافظة عليها، مما جعل من سوريا فعلياً دولة عميلة لإيران
كذلك اتضح أن بشار لا يجيد قراءة الأحداث العظام، ففي مقابلة طويلة مع صحيفة وول ستريت جورنال في شهر كانون الثاني من عام 2011 أكد أن سوريا منيعة عن المظاهرات التي كانت تهز تونس ومصر، لأن نظامه يشاطر الناس مُثُلهم. وبعد أقل من شهرين، أُثبت أنه مخطئ. فبعد أن أطلقت قوات أمنه النار على المتظاهرين العزل في مدينة درعا الجنوبية في 18 آذار، انفجرت المظاهرات عبر البلاد، وخصوصاً في المناطق الزراعية وأرياف المدن المهملة. وقد عاش النظام لمستوى إرثه، إذ كان رده بالعنف الرهيب، وهو الرد الوحيد الذي يعرفه. وعندما ظهر بشار آخيراً على شاشات التلفاز بعد أسبوعين من بدء المظاهرات، لم يعترف بمطالب المتظاهرين ولا أبدى أسفاً على القتل الممارس.
وبحلول شهر أيار من 2011، كان رد المنشقين عن الجيش السوري بالنار على قوات الأمن هو بداية الثورة المسلحة، وسرعان ما وجد هؤلاء المنشقون الذين أسسوا الجيش السوري الحر أنفسهم بمواجهة عنف متزايد من النظام، الذي أخذ يستخدم الأسلحة الثقيلة على المدن والقرى المنخرطة في الثورة. ثم جاءت الأسلمة في أعقاب العسكرة مدفوعة برد النظام الطائفي على المظاهرات الأولى التي ثبت أنها غير متدينة، وشجع عليها الأفراد الأغنياء ذوي الطموح الواسع في المنطقة. فتدهورا ما بدأ كحركة احتجاج شعبية إلى حرب أهلية شرسة لم تؤلب السوريين على بعضهم فحسب، بل ألبت أيضاً القوى الدولية السنية ضد نظيرتها الشيعية.
كان كل هذا مستحقاً منذ زمن بعيد. فالتوتر الذي شعر به الرائد على المعبر الحدودي كان يضغط على عقل كل سوري منذ أربعة عقود. وعندما تفجرت الثورة أخيراً واستجاب النظام بالعنف، استجاب السوريون وهم المحرومون من أي قوة سياسية لفترة طويلة بالمثل. حملوا السلاح لأن النظام الذي عذبهم استخدم العنف ليبقيهم في قبضته. وجزء من لجوئهم إلى الدين هو بسبب كرههم لطائفية النظام شبه المفضوحة، والجزء الآخر هو إحساسهم بأن العالم قد خذلهم وما من نصير لهم إلا الله كما كان يغنون خلال المظاهرات. ثم جاء خطف عسكرة وأسلمة الثورة لاحقاً من قبل الأجندات الدولية المتناحرة ليطمر الأسباب التي أدت إليهما.
London Review of Book- ترجمة ديمة الغزي-السورية الجديد