لو تمت ترجمة ما نكتبه اليوم عن بعض جوانب الحياة التي عاشها السوريون في زمن حكم حزب البعث والأسدين (حافظ وابنه) إلى لغات العالم، فإن القارئ الأجنبي سيتهمنا -حتماً- أننا نصور عالماً سرياليًّا متخيلاً، وأننا نكذب، ونبالغ، لاعتقاده أن ذلك لا يمكن أن يحدث حتى في العصور الموغلة في التوحش والبدائية، على الرغم من أن ما كتب -على كثرته- عما عاشه السوريون في ظل حكم البعث والأسد وابنه، لا يشكل غيضاً من فيض عاش السوريون في “ضَلاله” أكثر من نصف قرن من الزمن.
لا يمكن للقارئ غير السوري، أن يصدق -لو قلنا له- أن خلف مبنى الإذاعة والتلفزيون في دمشق، ثمة بناء مهدَّم اسمه “الطاحونة” -يقال إنه كان طاحونة ماء في سالف الزمن يوم كان نهر بردى بفروعه السبعة على قيد الحياة- خصصه حافظ الأسد سجناً يتدرب أبناؤه باسل وبشار ومجد فيه، منذ كانوا تلاميذ في المدارس الإعدادية والثانوية، حيث يسجنون فيه زملاءهم في المدرسة، ويتدربون فيه على اكتساب خبرة في آليات القتل، والضرب، وتكسير الرؤوس!
ويتذكر السوريون كيف أن بشار الأسد، حين كان طالباً في الثانوية، انزعج -ذات مرة- من مفلح الزعبي نجل رئيس الوزراء آنذاك، لأنه “دوبل” عليه بالسيارة، فما كان منه إلا أن أوعز لمرافقته أن يأتوا بمفلح إلى الطاحونة، ولم يخرج منها المسكين إلا وأضلاعه مكسرة، وبعضاً من عقله قد طار.. وهذه قصة من قصص مشابهة كثيرة، انتهى صاحبها إلى أن يصبح رئيساً!
وحتماً لن يصدق أحد في القرن الحادي والعشرين، أن رفعت الأسد شقيق حافظ، قام بالاستيلاء على أراضٍ مساحتها مئات الهكتارات، ما بين المزة والمعضمية في دمشق وفي طرف ضاحية قدسيا، وطرد أهلها منها، ثم بنى عليها مباني “لشبيحته” ومرافقيه، دون أن يستطيع أحد من ملاكها الدمشقيين أن ينبس بكلمة احتجاج واحدة، وسميت فيما بعد السومرية والعرين، ومنها تخرج أبرز أساطين “التشبيح” و”التعفيش” والتسلي بالقتل وقطع رؤوس السوريين!
وهو -رفعت الأسد- يعيش اليوم معززاً مكرماً متاجراً في باريس، دون أن يفكر الفرنسيون في تقديمه للمحاكمة، رغم معرفتهم أنه هو الذي قتل في ليلة واحدة ألف سجين أعزل أخرجهم من سجن تدمر إلى الصحراء وقتلهم بدم بارد!
هل هناك سوريالية أوضح وأقسى من هذا الذي نروي بعض فصوله؟!
نعم إنها موجودة وكنا نعيشها بشكل يومي نحن السوريون!
في فرنسا نفسها، يعيش اليوم مصطفى طلاس، وزير دفاع حافظ الأسد، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وهو الشخص الذي لم يستح، ولا رفّ له جفن، حين اعترف بجرائمه، وكتب في مذكراته أنه كان يوقِّع كل يوم أكثر من مائة وخمسين قرار إعدام لسجناء الرأي في تدمر.. إعدام أناس كل جريمتهم أنهم قالوا رأيهم في نظام البعث وحافظ الأسد، ولم يكن واحداً منهم قاتلاً أو لصًّا مما يستوجب إعدامه!
والعالم لن يصدق بكل تأكيد، أن نائب الرئيس السوري، عبد الحليم خدام، قام وفي وضح النهار بدفن أطنان من النفايات النووية في صحراء تدمر مقابل مئات ملايين الدولارات، دون أن يجرؤ أحد على محاسبته أو الاقتراب منه.. فقط لأنه من بطانة حافظ الأسد، وأحد أبرز الموثوقين عنده!
نعرف أنه لا يمكن للقارئ غير السوري أن يصدق -مثلاً- أن جميل حسن، رئيس مخابرات القوى الجوية، استدعى في الأشهر الأولى من الثورة السورية ثلاثة محامين شباباً إلى مكتبه للتحقيق معهم، حول جريمتهم وهي أنهم اشتركوا في بعض المظاهرات السلمية، وأثناء التحقيق معهم جاءه هاتف حمل له خبراً مزعجاً، فما كان منه إلا أن قام من كرسيه، واقترب من الأبرياء الثلاثة وأفرغ رصاص مسدسه في رؤوسهم، وخرج بعد أن أوصى حراسه بتنظيف المكتب لأنه سيعود بعد ساعة!
ومن النماذج السوريالية التي لا يمكن للدمشقيين نسيانها، محافظ ريف دمشق، علي زيود، الذي خصص اثنين من حراسه الشخصيين، مهمتهما الجلوس معه في زاوية من مكتبه، ولا عمل لهما إلا عدّ النقود التي يأخذها علانية كرشوة من مراجعيه الذين يحتاجون توقيعه وموافقته على بعض احتياجاتهم.. ومن كلماته المأثورة المحفوظة في ذاكرة الدمشقيين، جملته الشهيرة في آخر النهار:
– “اليوم الذي لا يدخل جيبي عشرة ملايين ليرة (300 ألف دولار في ذاك الزمن) ما ينحسبش من عمري”!
والطريف في الأمر أنهم حين نقلوا لحافظ الأسد هذه الحكمة الزيودية “طقت خواصره” من الضحك، وانشرح صدره، ووافق على تمديد خدمة زيود في الوظيفة نفسها.. هذه معلومة وليس “تفنيصا”!
وكيف يمكن للغرب أن يصدق، أنك كسوري عليك أن تدفع مليون ليرة سورية
(نحو 30 ألف دولار) لمدير سجن تدمر الجلاد الشهير، فيصل غانم، فقط ليوافق لك على رؤية ابنك المعتقل وهو يمر من خلف الشباك منهكاً أو محمولاً على خشبة بعد “حفلة تعذيب”!
تدفع مليون ليرة لتطمئن -فقط- على أن فلذة كبدك ما زال حيًّا دون أن تتكلم معه، فهذا له سعر آخر!
ونعرف أن العالم لا يمكن أن يصدقنا، إذا قلنا له إن ضابطاً صغيراً في جيش نظام الأسد، قام بسلخ.. نعم سلخ لا تستغربوا.. جلد الطفل حمزة الخطيب، وقطع عضوه الذكري، ومن ثم إرسال جثته مع الجلد إلى عائلته، وفي اليوم التالي لهذه الجريمة، يصدر رئيس الجمهورية بشار الأسد أمراً بترقية هذا الضابط إلى رتبة أعلى!
لا نعتب على القارئ غير السوري إذا لم يصدقنا، لأننا نعرف أنه لا يمكن له أن يتصور قوة تحملنا وصبرنا على هكذا ممارسات لاإنسانية، وبشكل يومي، لكنها الحقيقة، التي عشنا في كنفها -نحن السوريين- خمسة عقود وأكثر، وربما -بل من المؤكد- لهذا قمنا بأعظم ثورة عرفها تاريخ البشرية!
هافينغتون بوست عربي