قال القدماء “لا اختبار أصعب من اختبار الهجرة والغربة عن الأوطان”, وهناك من قال أيضا “الغربة مرة, والغربة كربة”, وفي جميع الأحوال هناك إجماع كبير منذ القدم وحتى الآن على صعوبة وقساوة هجرة الأوطان, والابتعاد عنها وخوض غمار العزلة في بلاد المهجر والاغتراب.
السوريون وجهاً لوجه أمام اختبار الغربة:
منذ ما يقارب ست سنوات وحتى الآن, يعيش السوريون صراعا حقيقيا مع مزيج معقد من الخوف والقلق والمعاناة المغلفة بخيوط أكبر مأساة عرفها الإنسان في القرن الواحد والعشرين, نتيجة اندلاع حرب في البلاد تشابكت خيوطها, وتداخلت ملفاتها, الأمر الذي جعلها تبدو بحرب طويلة الأمد, أو حرب ضروس من الصعب إيقافها, بعد أن قرر الشعب السوري بمختلف أطيافه ومكوناته الانتفاض على نظام الاستبداد.
وكان لتبعات الحرب الأثر الكبير على حياة السوريين التي انقلبت رأساً على عقب, فقدم أبناء الشعب الآلاف من قوافل الشهداء, وخلفت هذه الحرب الظالمة آلاف المفقودين والمعتقلين والأرامل والايتام, ونتجت عنها موجة نزوح وهجرة كبيرة صنفت بالأسوأ في هذا القرن, وهنا وجد السوريون انفسهم امام الاختبار الأصعب والاقسى, اختبار الهجرة والاغتراب.
كيف ينظر السوريون لفكرة الاغتراب؟
بدأت موجات الهجرة والنزوح خارج البلاد تتوالى, وكانت دول الجوار هي الوجهة الأولى, مثل لبنان والأردن وتركيا, فخرجت آلاف الأسر مرغمة للعيش في الخيام ومجمعات اللجوء المؤقتة, وهنا بدأت لحظات الصراع مع مرارة الغربة.
“توفيق رستناوي” هو مواطن سوري من محافظة حمص, يعيش مع أسرته أحد مخيمات اللجوء في مدينة “أورفة” التركية, يتحدث لنا عن ما يدور في خلده عن المعاناة مع الغربة بالقول:”صدقوني لا أكذب عليكم إن قلت لكم أنني نسيت ملامح العيش بعيداً عن الغربة, فالغربة واقع مر مفروض تمكن من حذف ذاكرتي الجميلة عن العيش ضمن ربوع الوطن, أجبرت على النزوح والعيش في تركيا وخوض غمار الغربة, فقد فقدنا كل شيء في حمص”.
بالتأكيد فإن توفيق المواطن الحمصي يطرح جدلية لم يعتد على طرحها غير السوريين وهي جدلية تفوق واقع الغربة المرير على ذكريات العيش في ربوع الوطن.
هل مازال السوريون يفكرون بالهجرة؟
رغم إجماع السوريين على فكرة أن “الغربة مرة”, وأن العيش في بلاد الهجرة لن يعالج مأساة الجسد لأنه يخلق مأساة جديدة تتعلق بالروح, فهم مازالوا يفكرون حتى اليوم بالنجاة بأرواحهم من براثن وقبضة الحرب الفتاكة, بالتأكيد التعميم غير منطقي, إلا أن قسما كبيراً منهم مازال يجد نفسه في صراع مع تقبل فكرة الغربة والهجرة.
سامر “33” عام هو مهجر من مدينة حلب, ويعيش حاليا في ريف حلب الغربي يحاول إقناع نفسه بتقبل فكرة الهجرة والاغتراب التي رفضها منذ البداية بالقول:” لطالما رفضت فكرة الهجرة, وتمسكت بالبقاء في بيتي في حي الفردوس في حلب, رغم كل القصف العنيف, ولكنني الآن فقدت كل شيء وأنا هنا عاطل عن العمل, قد تجبرني فكرة البحث عن تأمين الطعام لأطفالي خوض غمار الغربة”.
ما أقساها من لحظات, وما أعظمها من مشاعر عندما يعيش الإنسان صراعا داخليا بين رغبته بالتمسك بأرضه, ورغبته بالنجاة بأطفاله باللجوء, إلى تلك البلاد البعيدة التي لا يوجد فيها سوى الغربة والاغتراب, هذا حالنا!!
المركز الصحفي السوري-فادي ابو الجود.