مرة أخرى خلال أقل من شهر يخلط الروس الأوراق ويجذبون الأنظار إليهم ، فبعد الإعلان عن تدخلهم المفاجئ قبل ثلاثة أسابيع، تتم الزيارة الأولى لبشار الأسد إلى موسكو.
على أثر تلك الزيارة المفاجئة ارتفع سقف المراهنات في بورصة التسوية السورية وارتفع منسوب التكهنات التي عززتها اتصالات بوتين بمجموعة من القادة الإقليميين، وأفضت إلى اجتماع فيينا الفاشل.
ولكن لماذا فشل اجتماع فيينا؟ أهو اختلاف عابر على التفاصيل؟ أم أن اجتماع فيينا كان محكوما عليه بالفشل سلفا لأسباب موضوعية؟
بداية، شكلت الزيارة بحد ذاتها ستارة حجبت مشهد العمليات العسكرية الروسية، واستبدلته بالمشهد السياسي، وهو ما يحتاج إليه الروس بشدة، قبل غيرهم، من أجل خلق صورة جديدة، ومغايرة لصورة الشريك الفعلي لنظام الأسد وشخصه
تلك الصورة التي أدركوا سريعاً كلفتها السياسية والميدانية، فحاولوا الاستعاضة عنها بموقع الراعي والضامن للتسويات المحتملة، وهم بذلك ينقلون عملياتهم العسكرية من مداها العبثي إلى افقها السياسي كما يأملون.
ولكن هل حاجة الروس لصورتهم الجديدة تتوافق مع نواياهم الفعلية؟ وهل تتقاطع عملياً مع رغبة حلفائهم في دمشق وطهران؟ وهل توفرت لديهم الإرادة الجادة في التوصل إلى تسوية ممكنة وفق مبادئ جنيف؟.
لعله من المفيد الرجوع إلى الخلف للقول بأن عدد الضحايا السوريين لم يكن قد تجاوز الثلاثين ألفاً عند صدور بيان جنيف ، وأن من فرغه من مضمونه الفعلي هم الروس أنفسهم قبل حلفائهم بسبب غياب الإرادة المجتمعة لدى أطراف هذا الحلف ( دمشق طهران موسكو) لحصول التسوية المطلوبة
وإن كان غياب الإرادة لدى طهران وموسكو، سابقاً، قد تمثل بالخوف من خسارة مصالحهم في سوريا، فإن غياب الإرادة الفعلية لدى الأسد كان محمولاً على وهم الانتصار في حده الأعلى ، وراضياً في حده الأدنى باستمرار واقع الحال المحمي من خلال شبكة الأمان التوافقية بعدم إسقاط نظامه عسكرياً.
ولا شيء، حتى حينه، يؤكد غياب شبكة الأمان عن النظام ورموزه، فلا يدٌ عليا ترفع لمحاسبته دولياً على أفعاله، أو على عدم انصياعه، ولا شيء أيضاً يدل على تغير الإرادة المجتمعة، والرافضة للتسوية الجذرية ضمن معسكر النظام، مع أن الروس باتوا أكثر اقتراباً منها لأسبابهم الذاتيه، لكن اقترابهم من التسوية يأتي ضمن مفارقات من شأنها أن تعيدهم إلى مربع تفجير التسوية من داخلها.
أولى المفارقات وهي اعتماد فكرة إضعاف النظام كوسيلة مثلى لجره إلى طاولة المفاوضات، فيما يعتبر الروس أن تقوية النظام، أو إضعاف المعارضة هو المدخل الرئيس للتسوية، وهو ما يقومون به بأنفسهم، وبالشراكة البرية من قبل الحلفاء.
المفارقة الثانية هي في نظرة الروس إلى المعارضة من منظور النظام الذي يحدد هوية المتطرفين، ففي حين يقول بوتين إن الأسد مستعد للحوار مع المعارضة يتولى الروس عملية القصف المركز على أكثر التشكيلات اعتدالاً.
والمفارقة الثالثة أن الروس في ذات اللحظة التي يدّعون فيها انتقالهم من موقع الشريك إلى موقع الأخ الأكبر في هذا الحلف، لا تبدو قدرتهم على جر حلفائهم إلى التسوية المطلوبة أمرأ مسلما به، وهذا بالتحديد ما اصطلح على تسميته بعقدتي الأسد وإيران.
قد لا يبدو كل من الأسد وحليفته إيران قادرين على صوغ المعادلات النهائية والحاسمة، وإلّا لما كان تدخل الروس ممكنا، أو ضروريا، لكنهما يملكان من أوراق التفجير ما يكفي للإطاحة بأية تسوية ممكنة على الأرض من خلال إدراكهم لطبيعة حلف الضرورة، أو حلف الاضطرار، الذي يجمعهم بروسيا، فما من طرف من الأطراف الثلاثة يقوى حاليا على الانسحاب منه دون التعرض لخسارة فادحة لا تنسجم مع استثماراته السياسية في الأعوام الماضية، وهذا من شأنه أن يوازن أوراق الضغط التي تملكها موسكو.
من جهة أخرى لا تبدو أحوال الحلف الثلاثي بنفس البريق الذي يقدم نفسه به، وهي أشبه حالاً بالمفلس الذي يحاول أن يبدو كالمليونير، بدءاً من النظام السوري الموضوع على سرير الإنعاش، والذي تجري المداولات، حالياً، حول إمكانية موته الرحيم، مروراً بإيران التي باتت بعد الاتفاق النووي وجهاً لوجه أمام تحدياتها الداخلية، وأمام أخطار انهيار إمبراطوريتها الخارجية في ظل استنزاف مكلف، وصولاً إلى روسيا العنترية ذات السمعة العالمية السيئة والاقتصاد المتراجع.
هذه اللوحة تضع الحلف الثلاثي أمام خيارين موجعين: يتمثل الأول بإعاقة التسوية المطلوبة واستمرار النزيف والغرق في الموضوع السوري بلا آمال كبيرة ، مع مزيد من المراهنات الزمنية الخاطئة.
أو قبول التسوية التي سيكون فيها رأس الأسد موضوعاً على الطاولة كشرط لا بد منه، وهذا أشبه بالهزيمة الفعلية، وخصوصا لإيران التي سيبدو الأمر كما لو تم بتر ذراعها هناك.
المعطيات السابقة هي ما يجعل يد الروس مغلولة رغم إدراكهم لواقع الحال، وهي ما دفعهم لمحاولة التذاكي و محاولة بيع جلد الدب قبل اصطياده، وربما مع محاولة إبقائه طليقا.
لهذا لم يكن فشل اجتماع فيينا مفاجئاً، فهو الصورة الموضوعية للمأزق الروسي الإيراني المهزوم بالنقاط، والرافض لهزيمة حليفهم الذي راهنوا عليه طويلا، بواسطة الضربة القاضية، وفشل اجتماع فيينا هو التعبير الأدق عن غياب الإرادة الفعلية للقبول بالتسوية المطلوبة وفق بيان جنيف من أطراف الحلف الثلاثي، ومحاولة استبدالها بعمليات التجميل السطحية.
فهل سيكون هناك فيينا من جديد في ضوء مراجعة الروس وحلفائهم لوضعهم القديم،المستجد؟ أم أن اجتماع فيينا لم يكن بالأساس أكثر من فرصة خلقها الروس لتحسين صورتهم الحالية؟
أورينت نت