بدو أن اتفاق ميونيخ الذي نال ترحيب المجتمع الدولي مُنذ أيام قليلة، والذي ركز على وقف العمليات العدائية وإطلاق النار واتجه نحو الحل السياسي من خلال استئناف مفاوضات جنيف 3، ظل محل الأوراق التي كُتب عليها، دون تنفيذ على أرض الواقع؛ إذ واصل النظام السوري والطيران الروسي عملياته العسكرية ضد الفصائل المعارضة، بينما بدأت تركيا في قصف مواقع كردية في سوريا.
وعلى مدار ثلاثة أيام منذ اتفاق ميونيخ مباشرة، يستمر القصف التركي للمواقع الكردية في سوريا، وهو أمر يبدو أنه مرشح للاستمرار خلال الأيام القادمة أيضًا وفقا لما تشير إليه مجريات الأحداث على الأرض.
(1) التطورات على الحدود السورية التركية
تُمثل منطقة أعزاز الواقعة شمالًا بالقرب من الحدود التركية السورية الخط الرئيسي لتركيا لمساعدة المعارضة السورية في مختلف أنحاء سوريا، وبالأخص منها منطقة تل رفعت التي تُعد المعقل الرئيسي لمعارضي الأسد، لذلك فإن تلك المنطقة لها حساسية شديدة عند الجانب التركي، وقد استهدف الهجوم الموسع الذي شنه النظام السوري مدعومًا بالغارات الروسية؛ قطعَ الطريق الواصل بين تركيا لدعم المعارضة، والذي استجدَّ أن وحدات حماية الشعب الكردية – الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي التركي – التي تسيطر على ما يسمى حركة سورية الديمقراطية استهدفت تلك المعارضة السورية في تلك المناطق، بل وامتد الأمر لإطلاق “نيران على القوات التركية” بحسب الرواية التركية مما دفع تركيا لقصف الوحدات الكردية وفقًا لقواعد الاشتباك باعتبار أن ذلك تهديد لأمنها القومي وحلفائها بالداخل السوري.
وقد أدى القصف التركي إلى إيقاع عشرات القتلى من الوحدات، وشهد يوم الأحد 14 فبراير وحده وقوع 29 قتيلًا من القوات الكردية، وقد مر القصف التركي دون إصابة أي من القوات التركية التي لم تدخل سوريا وقصفت الوحدات من الداخل التركي، في الوقت الذي قُتل أحد أفراد الجيش التركي على الحدود السورية في اشتباك مع مجموعة حاولت الدخول لتركيا بطريقة غير شرعية، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد أسفر القصف التركي للمواقع التي سيطرت عليها الوحدات الكردية عن مقتل 4 مدنيين هم سيدة و3 أطفال.
وفي الوقت الذي نجح فيه القصف التركي من إبعاد القوات الكردية عن مدينة أعزاز، فقد تمكنت الوحدات الكُردية من السيطرة على70% من بلدة تل رفعت الواقعة بين مدينة أعزاز وحلب، بعد معارك مع فصائل المعارضة التي أصبحت تواجه هجومًا ثلاثيًا من الجيش السوري وحلفائه الشيعة ووحدات حماية الشعب الكردية والغارات الروسية التي أدتلمقتل 10 مدنيين في أعزاز.
(2) ردود أفعال دولية
اتهم وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير روسيا وتركيا والمقاتلين الأكراد بانتهاك اتفاق ميونيخ، وبالأخص الجانب المرتبط بوقف الأعمال العدائية، ومُناشدًا جميع الأطراف بالخفض الفوري للعنف، وطلب من تركيا التحلي بضبط النفس، وهو مطلب أكد عددٌ من حلفاء تركيا من الغرب كأمريكا وفرنسا عليه، داعين تركيا لوقف قصفها على القوات الكردية.
“قصف تركيا لسوريا دعم سافر للإرهاب وانتهاك للقرارات الدولية”
هكذا جاء الرد الروسي – أكثر “شدة” من الغرب – على القصف التركي للوحدات الكردية، وأضافت الخارجية الروسية أنها “تدعم بحث هذه المسألة في مجلس الأمن الدولي لإعطاء تقييم دقيق للاستفزازات التركية التي تشكل تهديدًا للسلم والأمن في منطقة الشرق الأوسط وخارجها“.
وبعبارات متشابهة في معناها أدانت الخارجية السورية ما وصفته بـ”جرائم واعتداءات تركية متكررة على الشعب السوري وأراضيه، مؤكدة في رسالتين إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن “على أن ذلك يمثل دعمًا مباشرًا للتنظيمات الإرهابية”.
(3) تركيا ترد
يبدو أن تُركيا لم تبالِ كثيرًا بالانتقادات الدولية؛ إذ ردت على حلفائها الغربيين بأنها ستستمر في الرد على “استفزازات المُقاتلين الأكراد” على حد وصف رئيس الوزارء التركي أحمد داود أوجلو، الذي أكد أنه لن يسمح بسقوط أعزاز في يد الأكراد، وقال: “وحدات حماية الشعب الإرهابية التي تعتبر امتدادًا للنظام السوري، تتعاون مع روسيا في قصف المدنيين، وهاجمت عناصرها مدينة أعزاز”، مؤكداً أنها “تحرشت بالحدود التركية، وموقفنا واضح حيال تلك التهديدات”.
وجاء الرد التركي على روسيا بلهجة تصعيدية؛ عندما قال أوجلو: “ستواصل تركيا دعمها للإخوة السوريين وتقديمها المساعدة الإنسانية.. وإذا استمرت روسيا بالتصرف مثل منظمة إرهابية وإرغام المدنيين على الفرار، فسيكون ردنا حاسمًا”.
(4) هل سيستمر القصف التركي على الوحدات الكردية؟
يبدو أن القصف التركي سيتستمر على الوحدات الكُردية، إذ تتعدد الأسباب التي تراها الحكومة داعية لاستمرار القصف؛ كرد الاعتداء، وحماية أمن تركيا القومي، وإيقاف تحرك عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى الحدود التركية السورية، مما يُزيد العبء على تركيا التي استقبلت أكثر من 2.6 مليون لاجئ سوري، ومحاولة الحفاظ على أمان الطريق الواصل بين تركيا والمعارضة.
ولكن ما هو أبعد من ذلك هو مشاعر “الكُره” التي تحملها لوحدات حماية الشعب الكردية التي تُصنفها الحكومة التركية على أنها إرهابية لدعمها جماعة كُردية “إرهابية في تركيا كجماعة بي كا كا وحزب العمل الكردستاني”، بحسب الرواية الرسمية لتركيا التي تواجه تلك الجماعات أمنيًا، وقد عارضت كل من تركيا والهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن المعارضة السورية حضور ممثل للوحدات جنيف3 الأخيرة، في الوقت الذي طالبت فيه روسيا بمشاركتها في المحادثات.
ومن المتوقع ألا تتأثر تركيا كثيرًا بمحاولات أمريكا – حليفها الغربي الأكبر – لوقف قصف الوحدات التركية نظرًا لأن تلك الواحدات تُمثل مصدر خلاف بين تركيا التي تعاديها وتعتبرها إرهابية، وأمريكا التي تعتبرها صديقها المفضل بالداخل السوري. وقد أبدت تركيا انزعاجها من ذلك مطالبة أمريكا باختيار شركائها إما أن تكون “تركيا أو إرهابيي كوباني” على حسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تعليقه على زيارة وفد أمريكي للوحدات الكردية مطلع فبراير الجاري لبحث التنسيق الأمني بينهما. ولكن أمريكا تجاهلت تريكا وأرسلت 20 عسكريًا للتنسيق مع الأكراد، لذلك من المتوقع أن تتجاهل تركيا المطالب الأمريكية بوقف القصف التركي في مواجهة الوحدات الكردية إذا استمرت الأخيرة في إزعاج تركيا، وتجدر الإشارة إلى أن نشاطات الوحدات الكردية في سوريا لم تزعج تركيا فقط، وإنما أقلقت منظمات دولية أخرى موثوقة كالعفو الدولية.
“تسيء قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مناطق حكمها الذاتي استخدام السلطة، وتستهزئ بوقاحة بالقانون الإنساني الدولي، حيث ترقى هجماتهم إلى مستوى جرائم الحرب”.
هكذا تؤكد لمى فقيه، كبيرة مستشاري الأزمات في منظمة العفو الدولية، على الانتهاكات التي يمارسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، وهو الواجهة السياسية لميليشيات وحدات حماية الشعب الكردي (YPG)، انتهاكات تتسق مع تقرير منظمة العفو الدولية الذي صدر في أكتوبر الماضي وأكد على وجود أدلة “على انتهاكات مثيرة للقلق، بما في ذلك روايات لشهود عيان وصور أقمار صناعية، تظهر التهجير المتعمد لآلاف المدنيين وهدم وحرق قرى بأكملها” في المناطق التي يسيطر عليها الحزب شمالي سوريا.
تلك المنطقة التي يحكمها الأكراد بشكل ذاتي، وتوجه الاتهامات إليهم بأنهم ينتقمون من العرب السنة ويتوسعون في سوريا بدعم دولي، مُستغلين الحرب على “تنظيم الدولة”في الاستحواذ على أراضٍ كانت في الأصل “عربية”، وهو ما لفت إليه باتريك كوكبر مراسل صحيفة الإندبندنت في الشرق الأوسط، عندما أفاد “الصراع في مناطق السيطرة الكردية يمتلك جوانبَ كثيرة من صور الحرب العرقية، فالأكراد يطردون العرب السنة، ويتهمونهم بأنهم من أنصار الدولة الإسلامية.
ساسة بوست