في واحدة من زيارات المعارضة السورية إلى موسكو، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يسأل من يقابلهم: هل لديكم علاقة مع الجيش والأمن تمكّنكم من ضمان ولائهما لكم؟ وهل يمكنكم إدارة البلاد بطرق منظمة وشرعية، إذا قرّرنا التخلي عن الأسد؟ هل لديكم، في المقابل، “مونة” على الجيش الحر ومقاتلي التنظيمات المتطرّفة تمكّنكم من إقناعهم بِ، أو إرغامهم على، احترام نظامكم الجديد، واستعادة الأوضاع الطبيعية في البلاد، وحماية جميع مكونات شعبكم، وصيانة مؤسسات الدولة ورعاية المجتمع، وحماية جيرانكم والعالم من فلتان القوى المسلحة المتناقضة والمتصارعة التي، إن تصارعت على السلطة، انخرطت في صراعٍ سينتج حالات عنفٍ قد تجدّد الحرب في سورية، وتفجّرها في البلدان المجاورة ثم في العالم، إذا ما رجحت كفة التنظيمات المتطرّفة، ووجد الجوار السوري نفسه مجبراً على العودة من جديد إلى سورية، وتسبّب في مشكلاتٍ يصعب حلها، ستكونون أول من يدفع ثمنها الفادح الذي ستنتجه مصالحها المتناقضة وخلافاتها؟
لم يتوقف لافروف عند الجانب الحقوقي من الحدث السوري، الخاص بشرعية ثورة الحرية وحق الشعب السوري في تقرير نمط نظامه، ولم يكترث لضياع شرعية النظام، ورأى الوضع السوري بعين بلاده وبدلالة مصالحها. لذلك، وبدل أن ينطلق في موقفه من الإقرار بحقوق السوريين، وشرعية ثورتهم، نظر إلى النظام البديل الذي يطالبون به بمنظارٍ يرى مصالح (وصراعات) الدول الكبرى وحدها. لذلك أخبر محادثيه أنهم لن يحافظوا على مؤسسات النظام، في حال وقع التغيير الذي يطلبونه، الأمر الذي ستترتب عليه مشكلاتٌ خطيرة بالنسبة لمن يحتاج إليها، وخصوصاً روسيا التي تواجه تحدياتٍ خطيرة، بينما تمر بمرحلة تحولاتٍ هيكليةٍ تتحدّى استقرارها، وتنقلها من نظام اقتصادي/اجتماعي/سياسي إلى نقيضه، في ظروفٍ تتعثر فيها بناها الجديدة، وتواجه ظروفاً دولية غير ملائمة، ذات نتائج بعيدة المدى، وغير مسيطر عليها، بالنسبة إلى أوضاعها، بما أن من يصنعها هم خصومها الغربيون.
بميلنا إلى رؤية الخارج، بدلالة الطابع الشرعي لثورتنا ووضعنا الذاتي، وميل لافروف إلى رؤية أوضاعنا بدلالة تناقضات وتشابكات تمسّ، في رأيه، بمصالح الخارج عموماً، وروسيا خصوصاً، تحول كل حديث مع لافروف إلى حوار طرشان. يتحدّث عن موضوعين مختلفين أشد الاختلاف. ومع أن بعض المعارضة عرض عليه تعاوناً مفتوحاً يعطي روسيا الحق في استخدام الموانئ السورية، وفي بناء جيشها الوطني الجديد، وإعادة إعمارها، فإن عروضه لم تلق آذاناً صاغية لدى وزير الكرملين الذي كرر دوماً أن مشكلات سورية ستستمر وتتصاعد، في حال انتصرت الثورة، وستمثل تهديداً للوضع الدولي، ولعلاقات بلاده بالدول الغربية، وستنزل بها قدراً كبيراً من الضرر، وستضرّ بقدراتها وعلاقاتها الخارجية، وما تنتهجه من سياسات.
كان لافروف يخشى أن تضعف أية خطوةٍ يقوم بها لصالح الثورة مكانة روسيا في سورية، المضمونة بنظام أسدي يخدم مصالحها القومية، عبر محافظته على مؤسساتٍ لعبت دوراً مهماً في بنائها، تخشى موسكو أن يقوّض غيابها قدرتها على استعادة الموقع الذي ستخسره بتخليها عن الأسد، في ظل منافسةٍ شرسةٍ مع أميركا والدول الغربية التي يرجّح أن تحتل مكانتها في دمشق، فليس في وسعها التخلي عن نظامٍ قاتل، لكنه يخدمها، في وضع دوليٍّ ليست موسكو الطرف الذي يضبط توازناته، ويوجه تطوراته، ويرجّح أن تزيده خسارة سورية ضعفاً على ضعف. من جانبها، تقاسمت واشنطن الهموم الروسية، في ما يتصل بقدرة الثورة على تقديم بديل فاعل للأسدية، وبالموقف منها جهةً تضمن مصالح دولية، يرجّح أن تضيع، في حال تسرّع العالم في التخلي عن الأسد، أو مكّن الثورة من إسقاطه.
والنتيجة، وازنت روسيا بين مصالحها وحقوق الشعب السوري، فتمسّكت بالنظام الأسدي، وزاد من دعمها له أن المعارضة لم تقم بأي جهدٍ لكسب جيش النظام وأمنه، أو لاختراقهما، وبناء بديل لهما، إلى جانب إلزام الجيش الحر بخياراتها وقبوله بقيادتها، وإضعافها التنظيمات المتطرّفة وتهميشها، ووضع حد للخلافات التي استهلكت قواها، ودار معظمها حول محاصصاتٍ تتصل بتياراتٍ متناقضةٍ أرادت السيطرة على مؤسستها الرسمية، المعترف دوليا به، مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية التي لعبت انقساماتها وصراعاتها دوراً خطيراً في ما أصابها من شلل وعطالة، وعزلةٍ عن الشعب. بسلبيتها حيال مشكلات الثورة، تعزّزت الهوة بين المعارضة والداخل، وتفاقمت مشكلاتها مع الخارج، وزاد طينها بلةً اعتقادها أن القبول بالحل السياسي ومفاوضات جنيف هما كل المطلوب منها ، وأن القرارات الدولية الخاصة بالحل تعطيها السلطة، وإن كان العالم غير مقتنع بأهليتها، ومؤمناً بعجزها عن نقل سورية إلى نظام بديل، وبأن أي حل سياسي سينقلب إلى مشكلة دولية، وسيطلق صراعاتٍ لا مصلحة لأحد فيها.
لذلك ابلغ المعارضين مرات عديدة أن بلاده قرّرت عدم الموافقة عليه، ولتذهب حقوق السوريين وثورتهم إلى الجحيم.
لم تقبل روسيا إغراءات المعارضة الوهمية، وفضّلت التعامل مع النظام، باعتباره حليفاً يجب دعمه ضد معارضيه الذين فشلوا في تحويل أنفسهم إلى بديل له، وانحازوا إلى خصمها الأميركي، وعجزوا عن توحيد الجيش الحر والفصائل العسكرية، وعن إخضاعهما لقيادة سياسية/ ميدانية مشتركة، فلا عجب أن موسكو لم تجد نفسها مجبرةً على تغيير مواقفها وخياراتها منا، وعلى أخذنا بجديةٍ وقبول مطالبنا، وبالتالي، تغيير موقفها من النظام الأسدي، تحت ضغط خطواتٍ تستكمل من خلالها شرعية الثورة الوطنية والديمقراطية القانونية التي سيكون من الصعب عليها تجاهلها، وإلا خسرت مكانتها في بلادنا ومصالحها فيها، بانتقالنا من سياسةٍ تستند على فكرة الحق إلى واقعٍ نتحكّم بمفاصله، ونسيطر عليه، يقنع العالم بقدرتنا على تحقيق مطالبنا، وبأننا الطرف الذي يضمن مصالحه.
بالقطع مع طريقةٍ ألفنا النظر إلى أمورنا من خلالها، غربتنا عن واقعنا، وحالت بيننا وبين القيام بأفعال منسقة ومنظمة، قادرة على ردم الهوة بيننا وبين مجتمعنا، وتصحيح أولوياتنا، فلا يأخذنا تفكيرنا الحقوقي إلى خارج السياسات الدولية وواقعنا في آنٍ معا، ونخرج مما نحن فيه كشكّائين شكاكين، يكتفون بمواقف تنوس بين إدانة العالم وتجريمه وبين شتمه بأشنع الألفاظ، كما نفعل كل يوم.
أدرك الروس عجزنا، فتجاهلوا حقوقنا. وكنا نتوهم أن معسول وعودنا سيقنعهم بتأييدنا، وحين بانت عبثية سلوكنا التي أقنعتنا أننا ما زلنا نتعامل مع الاتحاد السوفييتي، أو مع شيوعيين يؤمنون بحق الشعوب في اختيار نظامها السياسي/ الاجتماعي، وتقرير مصيرها بنفسها، لم نراجع أنفسنا، ربما لأننا لم نفهم أن الدول تسيرها السياسات التي تعود بأقل ضرر على مصالحها، وفاتنا أن العالم أدار ظهره قرناً وربع القرن لحقوق الفلسطينيين ولقراراته الدولية بشأنها، وتوهمنا أن روسيا التي قطعت علاقاتها بالشيوعية صارت حقاً نصيراً للديمقراطية، سيضع حريتنا فوق مصالحه. وحين تبين لنا أنها لن تفعل، قاطعناها وأعلنا العداء لها، بدل أن نرسي حقوقنا على أرضيةٍ ثوريةٍ، لا تترك لها خياراً غير مراجعة موقفها بما يخدم أهدافنا، لأن تحقيقها يخدم مصالحها، بعد أن صار لها أنياب توجع من يتجاهلها.
بدل أن نصحح، نحن في المعارضة السورية، أخطاءنا التي انتقدتها أميركا مراراً وتكراراً، طالبنا الروس بالتخلي عن مصالحهم وتبني مواقف من النظام مطابقة لموقفنا، وحين رفضوها، توطّدت ورطتنا التي لم نخرج منها إلى اليوم.
العربي الجديد – ميشيل كيلو