للإجابة الشافية على هذا السؤال المهم، لا بدّ من طرح سلة كاملة من المقدمات المنطقية، نقدمها على شكل أسئلةٍ، بحيث يكون في كل واحدٍ منها جزءٌ من الدّليل.
لماذا لم تصل أيّة عصابة انقلابية من عصابات العنترية العربية إلى السلطة، قبل قيام دولة إسرائيل؟ وجميعنا يعلم أنّ أول لعنةٍ انقلابية وقعت على سورية كانت عام 1949 وعلى يد حسني الزعيم؟ ولماذا كانت البداية من سورية؟
سأجيب: لأن سورية كان لها آنذاك أهم برلمان في الشرق الأوسط.
لماذا لم تنقضّ العصابة العنترية القومجية على الحكم في العراق، قبل ولادة الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958، فقط بعد ستة أشهر من ولادته؟ ما السبب الذي جعل الوحدة مستحيلة بين بلدين عربيين متجاورين، كالعراق وسورية؟ علماً أنّ حزباً واحداً حكمهما، شعاره الوحدة والحرية والاشتراكية؟
من المستفيد والرابح الأول من الاستبداد في دول الطوق؟ ولماذا مطيّة التمكين منه وتكريسه، هي المطية نفسها (الغباء السياسي) في مصرعبد الناصر وسورية الأسد؟
ما هو تفسير الموقف الأخلاقي لديفيد بن غوريون، رئيس أول وزارة في الكيان الإسرائيلي، والذي يبدو، في ظاهره، مضاداً لمصلحة إسرائيل، وذلك بقوله المأثور: لو كنت زعيماً عربياً، لن أوقع اتفاقاً مع إسرائيل أبداً.
وفعلاً عمل الشباب بنصيحته، ولم يوقعوا أي اتفاق مع إسرائيل، ولأن أنور السادات سوّلت له نفسه، واقترب من تخوم الشفافية، واشتُمَّ منه اليسير اليسير من رائحة الحرية، ووقَّع الاتفاق مع إسرائيل، تم قتله، وهناك غولدا مائير التي عبّرت عن عدم رغبتها بالتعاون مع الملك حسين، لتخوّفها من رغبته الحقيقية في توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل.
الجريمة التي ارتكبها أنور السادات بحق إسرائيل، في اتفاقية السلام التي نزعتْ قشرة بيضة العنترة القومجية، وكشفتْ حقيقة فرخها الميت، جعلت إسرائيل تفكّر بالبدائل، واستطاعت مردوفةً بمصالح إيران، أن تخلق لنا عنتريّات دينية، بديلاً عن العنتريّات الكلاسيكية.
يغرّب المحللون ويشرّقون، بحثاً عن مصالح الدول في الأزمة السورية، بطريقة ساذجة تدلّ على الغباء أو التغابي، وذلك بعدم الاقتراب من لبّ المشكلة التي أشرنا إليها سابقا.
لم يكن بين إسرائيل وعبد الناصر وحافظ الأسد وما تلاهما، عشقٌ أو صداقة على أساس شخصيٍّ، فإسرائيل تعشق الاستبداد لشعوب دول الطوق، وهو الاستبداد الذي تفرضه العنتريات، فيقتل، بالنيابة عن إسرائيل، الحرية التي تموت بقتلها الديموقراطية، وعندما تموت الديموقراطية يموت معها البرلمان الذي إنْ قرّر الحرب كانت حرباً حقيقية، وإن قرّر السلام كان سلاماً حقيقيّا، وهذا أخطر ما يهدّد إسرائيل، لأنه إن حصل، سيفرّغ إسرائيل من معظم ساكنيها، وذلك بالهجرة المعاكسة، التي سيعود من خلالها جميع اليهود الذين هجّرتهم أنظمة العنتريّات بالتواطؤ مع الصهيونية. نعم سيعودون إلى أماكن أمجادهم في بغداد والموصل وحلب وووو إلخ، حيث (الغوييم) بكل ما لديه من دماء .
إسرائيل التي تعضّ بالنواجذ على الاستبداد الأسدي الذي لم يوقع معها اتفاق سلام ولن يوقع، أي كما أرادت منه، وظل يهدّدها وسيبقى إلى الأبد. لم تنس من العمل على الاستبداد الاحتياطي، المتمثّل بالجماعات ذات الغباء الديني المتطرّف، وجعلتهم على درجات متفاوتة في التطرف، لتشغل الدول المتواطئة معها بقتال المجموعة الأكثر تطرّفاً، فيُفْتَح المجال، إن سقط الأسد، لتسلّل الثانية التي ستقبض على السلطة، وهناك ستطمئن إسرائيل من خطر السلام، السلام الحقيقي الكامن في دماء الثورة السورية اليتيمة.
العربي الجديد – عبد الرحمن الابراهيم