كان جميعُ الأنبياء والرسل ومن تبعهم معتقدين بعقيدة التوحيد الخالصة الصحيحة، كما أوحى إليهم ربهم تبارك وتعالى، والإيمان بصفات الله تعالى، ومنها، العلم والقدرة والإرادة والخلق كلها داخلة في التوحيد الذي هو أساس دين الإسلام، وتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء وغيرهم، وبين قولهم بالقدر، وبأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون.
1- في قصة نوح عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: “قَالُواْ يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَاتَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلاَيَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (هود: 32 – 34). فهم قالوا لنوح عليه السلام مستعجلين: يا نوح قد جادلتنا أي: حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك، فآتنا بما تعدنا من العذاب، فأجابهم نوح مبيناً أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء، ثم بين نوح أيضاً أن نصحه لا ينفع إذا كان الله يريد أغواءهم، فإرادة الله غالبة، ومشيئته نافذة.
2- وفي قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع ابنه إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أراد ذبحه بأمر الله، يقول: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَاتُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات 102). وقال تعالى: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ” أي: بلغ أن ينصرف معه ويعينه، وفي هذا يكون في الغالب أحب ما يكون لوالديه، فرأى أبوه في المنام أن الله يأمره بذبحه، ورؤيا الأنبياء وحي، فقال الابن مستسلماً: “يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”، فأخبر أنه موطِّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله. وهذا هو الشاهد.
هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون |
3- وفي قصة يوسف – عليه الصلاة والسلام – يقول الله تعالى: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (يوسف:100). إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء أي: إذا أراد أمراً قيض له أسباباً ويسره وقدره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الْحَكِيمُ: في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده، فيوسف -عليه السلام- كان مؤمناً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما هو بقضاء الله وقدره.
4 ـ وفي قصة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر الله عنه إيمانه بأن الهداية والإضلال بيد الله، وهما تحت مشيئته، فقال تعالى في معرض قصته: “وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ” (الأعراف : 155)، فقوله: “لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ“: أي لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا منقبل هذا الوقت، قال موسى اعترافاً بالذنب وتلهفاً على ما فرط من قومه، أو المعنى: لو شئت أهلكتهم وإياي من قبل خروجنا حتى يعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهمونني، وهذا على أن “لَوْ” للتمني. ثم قال: “إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء“: أي ما هو إلا اختبارك وإمتحانك تضل بهما من تشاء وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، فأنت وحدك لك الملك ولك الخلق والأمر، فقول موسى هذا يدل على تصديقه وإيمانه بالقدر.
5 ـ وفي قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تعالى عن الشيخ: “قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ” (القصص : 27)، والشاهد قوله: “سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ” أي: حسن الصحبة والوفاء، أو الصلاح العام ويدخل فيه صلاح المعاملة من باب أولى، وقيد ذلك بمشئة الله تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته.
6 ـ ويقول تعالى عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ والخضر بعد أن بين له أنه لا يستطيع الصبر معه، فأجابه موسى كما قال الله: “قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَاأَعْصِي لَكَ أَمْرًا” (الكهف: 69). سأصبر بمشيئة الله ولكن هل الاستثناء شامل قوله: “وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا” أولا؟ قولان للمفسرين والأرجح شموله لهما، قال في تفسير الجلالين “قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا” أي: وغير عاصٍ “لَكَ أَمْرًا” تأمرني به، وقيد بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين. فتعليق الأمر بمشيئة الله تعالى دليل على إيمان موسى بأن أي شيئ لا يكون إلا إذا أراده الله وشاءه، وقصة موسى والخضر كلها في باب القدر، وقد وردت بتمامها في صحيح البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: “يرحم الله موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما”.
7 ـ وبعد أن خسف الله بقارون وداره يقول تعالى عن قومه: “وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكَافِرُونَ“ (القصص : 82). فقوله “يَبْسُطُ الرِّزْقَ” لبعض عباده ويُضيّقه على بعضهم فله الأمر، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
8 ـ ويقول تعالى عن زكريا ومريم: “فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ” (آل عمران، آية: 37). فقوله: “إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ”: الراجح أنه من كلام مريم، وهو يفيد التقرير بأن الله قد يرزق عباده بغير حساب، وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه.
9 ـ وفي قصة الرجل صاحب الجنتين، يقول تعالى عن صاحبه أنه قال له وهو يحاوره “وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَاشَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا“ (الكهف: 39) أي: هلا قلت عندما دخلتها: “مَاشَاء اللَّهُ”، أي الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان فترد أمر جنتك من الحسن والنضارة لخالقه سبحانه، ولا تفتخر به لأنه ليس من عملك وصنعك “لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ” أي: وهلا قلت: “لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ”، معترفاً بأنها وما فيها بمشيئة الله -تعالى- إن شاء أبقاها، وإن شاء أفناها، وأنك عاجز عنها، وعن غيرها لولا معونة الله.
10 – والجن يذكر تعالى أنهم قالوا: “وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا” (الجن : 10)، فهم بعد أن منعوا من استراق السمع جزموا أن الله أراد أن يحدث في الأرض حادثاً كبيراً من خير أو شر، فقالوا: “وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ….” الآية، فهم مؤمنون بأن الله له الإرادة المطلقة، وقد كانوا مؤدبين فقد أضافوا الخير إلى الله تعالى والشر حذفوا فاعله تأدباً. إن الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان بالله، بل هو جزء حقيقي منه لأن معناه، الإيمان بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون، ونفوذ قدرته في كل شيء.
هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر فتراهم يقولون: القدر الأعمى، والقدر الأحمق، والقدر الغاشم، وعبثُ الأقدار، وسخرية القدر ونحوها، وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون، إنما هو إيمان بإحاطة علم الله وعموم مشيئته وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل ما يحدث في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تصميم سابق، وتدبير قدير، وتقدير عزيز عليم.
———————————————————————————————————————
المصادر والمراجع:
– ابن الجوزي، زاد المسير، (3 / 268 ـ 269).
– ابن قتيبة الدينوري، تفسير غريب القرآن ص 273.
– ابن كثر، تفسير القرآن العظيم، (4 /336،152،151) (8/257).
– جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين: حاشية الجمل الفتوحات الإلهية، (3 / 37).
– الشوكاني، فتح القدير، (4 / 169).
– صديق حسن خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، (5/ 454).
– عبد الرحمن السعدي، تفسير السعدي (3 / 422) (6/311،61).
– عبد الرحمن محمود، القضاء والقدر، ص 126-.131
– علي محمد الصلابي، الإيمان بالقدر، ص 21-25.
– القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (11 / 17).
– محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، كتاب العلم، فتح الباري، (1 / 317).
- د. علي الصلابي
- مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي
نقلا عن: مدونات الجزيرة