المعضلة في مشاعرنا تجاه أطفال الشوارع تكمن في التناقض بين إدراكنا أنهم مجرد أطفال خذلتهم الحياة وعائلاتهم والبلد، أطفال شوهت الحرب والأزمات طفولتهم ورمتهم في عالم الكبار القاسي، وبين تصرفات بعضهم المريبة…
الكتابة اليوم عن دمشق مرهقةٌ.
يحمل كثيرون عن دمشق في بالهم كرمز للحبّ والألفة. فمن يحمل من رحل عنها ما زال وجهها مشرقاً في داخله، دفء المنازل، وجبة الفول والفتّة الشامية كإفطار تقليدي ليوم الجمعة، طيبة الناس ولهفتهم. يُقال، كانت أيام خير، فهل فقدت دمشق خيرها؟
صديقي الذي أسميه ولشدّة حبه لدمشق: “أكثر من يحبُّ دمشق في العالم”، يسألني الكتابة عن الوجه الآخر والجميل للمدينة، فعلى رغم كلّ المآسي ما زال هناك جانب تجب الكتابة عنه. وقفت حائرة فعن أي دمشق أكتب؟ دمشق ما قبل 2011 أو ما بعدها، هل أكتب عن الذكريات الجميلة والتفاصيل المعمارية المذهلة والتي تستمر في اكتشافها في كلّ يوم وهي حقيقية وموجودة بالفعل، أم عن الفقر والجوع والأزمات وفقدان الوقود والخبز؟ للمرة الأولى أحار بين الجمال والقبح، بين رغبتي في النظر إلى الجانب المشرق من الحياة وبين قسوة المدينة التي لا تترك لي فسحة للاستمتاع بهذا الجمال.
عن أيّ دمشق يجب أن أكتب؟
أصادف في باب توما كالعادة بعض أطفال الشوارع يبيعون المحارم والورد. هذا ليس مشهداً جديداً، لكن ما تغير هو تصرفاتهم وطريقة تعاملهم مع المارّة أحياناً. يعترض أحدهم طريقي، طفلٌ لم يتجاوز الثامنة، يعرض علي شراء المحارم، أتجاهله ولا أنظر في عينيه. في الحقيقة لو أردتَ منح المال لكل طفل تقابله في دمشق ستحتاج إلى راتب كامل، أتابع طريقي لكن الطفل يعترضني مجدداً ويمنعني من المرور فأقول له: “لا أريد الشراء، دعني أكمل طريقي”، لكنه يلتصق بجسدي، للحظة يرفض عقلي الاعتراف بأن هذا الطفل يتحرش بي، حسناً كلّ الأطفال قد يلمسوننا بحثاً عن حنان ما، لكن التصاقه بي ازداد حتى دفعني نحو الحائط محاولاً لمس كامل جسدي بجسده، حينها صرخت به فدفعني بقوة وابتعد مبتسماً بخبث. طوال الطريق إلى المقهى حاولتُ إبعاد فكرة أن هذا الطفل متحرش، شعرتُ بالغضب منه وبالحزن عليه، كيف ستشعرين لو تحرش بك طفلٌ؟
لم أصدق أن طفلاً من أطفال الشوارع تحرش بي حتى أكدت صديقات تعرضهن لما حدث معي. تذهب إحدى الصديقات برفقة طفلتيها أثناء تدريبهما مع فرقة الكشاف، حيث تمضي وقت الانتظار في حديقة السبكي القريبة، لكنها كانت تشعر بالقلق من نظرات بعض أطفال الشوارع، وفي إحدى المرات قام طفلٌ لم يتجاوز الثالثة عشرة بلمسها فصرخت بوجهه وراحت تضربه بقنينة مياه تحملها وحين قدم شاب لمساعدتها قال له الطفل: “هي التي نظرت إليّ!”. تؤكد صديقتي أنها نظرت إليه بالفعل، لأنها شعرت بالحزن على حاله وهو يحمل السيجارة ويدخن في هذه السن، لكن لم يخيل لها أن يستقبل نظرتها كدعوة إلى التحرش، فهو طفل في النهاية!
عانت صديقة أخرى من مضايقات أطفال الشوارع خلال انتظارها حافلة العمل في الصباح الباكر، إذ كان الأطفال فيما يبيعون الخبز، يتفرّسون جسدها ويطلقون كلاماً مزعجاً عن لباسها ويضحكون. تقول: “تخيلي أنا امرأة في الثلاثين من العمر وكنتُ أشعر بالخوف!”، لاحقاً بات زوجها ينتظر معها الحافلة.
عن أي دمشق أكتب؟ عن دمشق حيث يتحرش بكِ طفل شوارع مسكين مثلك؟ أم عن دمشق التي تمتلك أجمل الأبواب في العالم؟ هل أكتب عن طفل لم يتجاوز الثامنة، تعرض لانتهاكات نفسية وجسدية مرعبة حتى بات يحاول محاكاتها؟ أم عن قصور دمشق العريقة، كقصر العظم وقصر النعسان؟ وسط هذا كله تصغُرُ دمشق الجميلة في مخيلتي يوماً بعد آخر.