صحيفة السفير

كيف تنظر أوروبا إلى لبنان؟ ماذا يمثل بالنسبة إليها؟ هل هو دولة متوسطية جارة متلقية للمساعدات، أم انه أكثر أهمية من ذلك؟ دولة التجاذبات الإقليمية، أم مسرح التسويات لها؟ وماذا عن خطر الإرهاب ودور الجيش اللبناني والزلزال السوري؟
في روما، التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، كانت الإجابات تشي ببعض مما لدى أوروبا تجاه لبنان، كدولة تعيش فراغًا سياسيًّا غير مقبول، وتمثل بالنسبة إلى الديبلوماسية الأوروبية، والإيطالية تحديدًا، «ساحة للتعايش» وحاجة ملحة للتفاعل الحضاري، كبديل عن زمن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش»، وهيمنة الأدوار الإقليمية للجنرالَين قاسم سليماني وحقان فيدان، والتناحر السعودي – الإيراني و «الحرب على الإرهاب».
يحاول مؤسس جماعة «سانت إيجيديو» الكاثوليكية أندريا ريكاردي اختزال الفكرة بالقول لـ «السفير»: «نحتاج إلى الدفاع عن لبنان، الدولة التي نحب.. وإذا كان سيدخل في أزمة، فإن مساحة للحرية في الشرق الأوسط ومنطقة المتوسط بشكل عام، ستلغى. أعتقد أن الواقع السياسي اللبناني يحتاج إلى إدراك الحالة الطارئة وتجاوز التكتيكات المقبولة عادة، لكنها خطرة الآن».
إلا أن أوروبا هذه لا تمتلك العصا السحرية، ولا الكلمة الفصل. هي تقر بذلك، وتعترف به بغصة واقعية. ولبنان هذا هش في ظل استمرار تفاعلات العاصفة السورية. ارتباطه بالغرب وجذوره القوية في العالم العربي، تضفي على موقعه حيوية أكبر، كما يرى الأوروبيون، لكن اللبنانيين لا يدركون تحديات هذا الموقع والدور، ومتطلباته، كسماحهم باستمرار فراغهم الرئاسي وافتقارهم إلى الإجماع حول جيشهم في مواجهة خطر الإرهاب الممتد لبنانيًّا وإقليميًّا.
يحب الإيطاليون التباهي بعلاقتهم الخاصة مع لبنان. يرون تماثلًا بينهم وبين الدياسبورا اللبنانية، في أسلوب حياتها ونجاحها في بلاد المهجر ونشاطها التجاري والمصرفي والعلاقة مع العالم الخارجي. يقول مصدر سياسي إيطالي لـ «السفير» إنه «ليس لنا ماضٍ استعماري في لبنان، ولا أجندة مخفية.. هذا جزء من حمضنا النووي في العلاقة مع لبنان. لكن مقاربتنا واحدة في لبنان كما في سوريا والعراق وليبيا وغيرها».
يوضح المصدر، في حديثه إلى «السفير»، أن «المقاربة الإيطالية تستند على فكرة اللامواجهة.. ندرك أن عوامل مالية وإيديولوجية تؤثر في مسارات المنطقة عندكم، وندرك أن رئاستنا الدورية للاتحاد الأوروبي، لا تعني امتلاكنا القرار الأوروبي، وأن اللاعبين في المنطقة كثر، ولهذا لا تحملونا مسؤولية امتداد النار السورية».
ويذهب المصدر الإيطالي في كلامه إلى «السفير» أبعد من ذلك. ينتقد الطبقة السياسية بكلام واضح. يقول بحزم: «لا يجب عليهم انتظار حصول تفاهم إيراني – سعودي لتحقيق تقدم في لبنان. نعتقد أنه لا يجب انتظار حل كل مشكلات المنطقة لتحقيق تقدم في لبنان، فالمشكلات يمكن التعامل معها تدريجيًّا. ولا يجب أن تتذرع هذه الطبقة السياسية بأن عدم وجود مثل هذا التفاهم يوفر عذرًا حتى يُمنَع الجيش اللبناني من التصرف بمسؤولية أكبر».
بأي معنى؟ يوضح المصدر ردًّا على السؤال: «ندعم الجيش ليقوم بدور أقوى في مواجهة خطر الإرهاب في لبنان وعلى حدوده، ونأمل خصوصا من القوى المسيحية أن تدعمه في ذلك».
من جهته، يقول ريكاردي ردًّا على سؤال بشأن ما إذا كان يشارك مخاوف اللبنانيين حول المخاطر الإقليمية الكبرى المحدقة بهم في ظل صعود القوى التكفيرية: «بالتأكيد إننا نواجه تفاقمًا في التطرف والعنف، ولبنان يبدو هشًّا، خصوصاً أيضا في ظل ما يجري في سوريا.. ولهذا نحتاج إلى رئيس قريبًا وحكومة قادرة على القيادة عبر عاصفة الشرق الأوسط».
وفي السياق ذاته، يقول المصدر الإيطالي: «مصلحتنا الأساسية باستقرار لبناني.. ولهذا لنا دور في قوات اليونيفيل في الجنوب، وندعم برامج تدريب أمنية وحكومية». وعلى المستوى اللبناني والإقليمي، فإن روما تعمل من أجل «الحفاظ على وحدة النظام السياسي وهوية الدولة وحدودها».
ويتابع المصدر: «من المؤسف ألا يتفق اللبنانيون على رئيس للجمهورية، وترك البلاد بلا رئيس كل هذه الفترة». وعما إذا كانت روما تؤيد خيارًا محددًا، قال المصدر: «لا نميل إلى مرشح محدد للرئاسة، ونحن نتحدث إلى الجميع، بما في ذلك حزب الله».
وكأن الايطاليين كغالبية الأوروبيين، تفاجئهم هذه اللامبالاة اللبنانية. يقول المصدر: «كل دول المنطقة خائفة من التطورات الإقليمية، ويفترض أن هذا الخوف من الإسلام المتطرف، أن يخلق نقطة لنشوء فرصة ما، لأشكال من التعاون بين القوى الداخلية والدول».
لروما مآخذها على «الحرب على الإرهاب». نقاط تحتاج إلى التصويب. حتى «حزب الله» يمكن أن يستنزف في هذه الحرب، يقول المصدر الإيطالي في سياق دفاعه عن ضرورة الجنوح إلى التسوية السياسية في سوريا. يقول: «من يريد أن يبقى حزب الله في تلك الحرب إلى ما لانهاية؟ الحل السياسي في سوريا، ولتكن بدايته في حلب أولًا، يمكن أن تمثل بارقة أمل حتى لأنصار الحزب بأن تلك الحرب يمكن أن تنتهي».
ويعتبر المصدر أن «القوة العسكرية في مواجهة الإرهاب لا تكفي وحدها. مشكلة داعش معقدة ومتداخلة. لا أريد التعليق عما هو من شأن الاستخبارات حول مسائل التنسيق أو التواصل المحتملة مع دمشق. خطر الإرهاب قائم، وهناك 50 شخصاً سافروا من إيطاليا وحدها للمشاركة في الجهاد في سوريا في صفوف داعش والنصرة وغيرهما.. بعضهم نقل عائلاته إلى الرقة».
ثم يكرر المسؤول: «ليس بالقوة العسكرية وحدها نواجه الخطر. لا العراق وحده ولا سوريا. هما جهة واحدة في الحرب التي يجب أن تتضمن أدوات أخرى غير الآلة العسكرية: في النواحي السياسية والديبلوماسية والثقافية والأمنية».
ومهما يكن، يعتبر الإيطاليون، أنه في خلال هذا المسار من «العمل الطويل المكثف ضد الإرهاب، يتحتم العمل من أجل نهاية سياسية، سواء في سوريا أو العراق. خطة حلب أولًا يمكن أن تساهم في الحرب على الإرهاب وداعش في العراق». ويضيف: «القوات الأرضية ليست كافية.. نحتاج إلى عمل سياسي موازٍ، لأن داعش ليس مشكلة سنية فقط، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن إلحاق الهزيمة به، سوى عبر السنة أنفسهم، طالما اعتبروا أن هذا التنظيم غريب عنهم ويخالف مصالحهم وهويتهم الحقيقية».
وإزاء هذا الطابع السني الذي يراه المصدر الإيطالي، فإنه لا يعتبر أن الجنرال الإيراني قاسم سليماني قادر على خوض هذه المعركة في العراق. ويوضح «الجنرال سليماني قادر على خوض هذه الحرب في بغداد وديالى وغيرهما، وبالقرب من الحدود مع إيران، لكن من يذهب إلى الأأنبار؟».
ومع ذلك، لا يعتبر المصدر الإيطالي أن هيمنة الأدوار الإقليمية التي يقوم بها كل من الجنرال سليماني والتركي حقان فيدان، لا خيارات بديلة عنها. يجدد التأكيد على أهمية المسارات السياسية لأزمات المنطقة. ويقول: «سئمنا من أدوار الجنرالات في المنطقة وتحكمهم بمصير العراقيين والسوريين.. لنعطِ العملَ السياسي فرصة».
في فترة العاصفة هذه، يراهن الأوروبيون على صمود فكرة «التعايش» في لبنان. تبدو الأمنيات ضربًا من الخيال. الوعي السياسي مصاب بالجفاف. والسياسيون يجترون أدوارهم في محيط مضطرب. لا أدوات أوروبية فاعلة تعدل في موازين المواجهة، أو تفرض وقائع قوية. الخيارات الضئيلة تنتج أفكارًا جزئية كما في حلب. المساعدات الأوروبية، تطبيقًا لاتفاق الشراكة مع لبنان، توفر إنعاشًا موقتًا، كما يرى محللون. «داعش وأخواته» تطرح خياراتها الفاقعة بدمويتها وجاهليتها. أوروبا تقول إنها تحارب من أجلنا أيضا، وتراهن بخفة على أمل. فكيف ننجو من العاصفة؟!