لقد كنت رئيسًا لمجلس الوزراء اللبناني عندما غزت إسرائيل لبنان آخر مرة في تموز (يوليو) 2006، مخلفة وراءها الموت والدمار. وكان همنا الرئيسي آنذاك أن تلحق الحرب الضرر أيضًا بنسيج المجتمع اللبناني. فقد أدت الصدمة الناجمة عن هذه الوحشية في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد وإضعاف المبادئ الأساسية للتعايش التي بنيت عليها. وسوف تؤدي حرب أخرى إلى تدمير هذه المبادئ، مع عواقب وخيمة في مختلف أنحاء المنطقة.
إن إعادة الإعمار المادي أمر ممكن دومًا بعد أي حرب مدمرة، ولكن التأثير السياسي والأفكار التي تنبثق عنها أشد خطورة وصعوبة في عكس مسارها. والواقع أن ما هو على المحك هنا هو ما وصفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بمهمة لبنان: إثبات أن التعايش والألفة أمر ممكن بين مختلف الأديان، ليس في لبنان فحسب، بل وفي المنطقة بأسرها. ويبعث لبنان إلى العالم برسالة بالغة الأهمية: مفادها أن الدين يجمع الناس بدلًا من أن يفرقهم.
إن لبنان لا يستطيع أن ينجو من حرب أخرى؛ فلبنان الذي نعرفه قد يختفي وقد ينشأ كيان أكثر خطورة. إن ازدهار لبنان يكمن في المثال الذي يقدمه على أن المسلمين والمسيحيين قادرون على العيش معًا، وأنهم يتقاسمون تاريخًا مشتركًا ومستقبلًا مشتركًا. والأمر لا يتعلق بالأرقام بل بالأدوار ـ فالكل يساوي أكثر من مجموع أجزائه بسبب الأدوار التي يلعبها كل مجتمع. لقد نجح المسيحيون في لبنان ، الذين كانوا منفتحين على الغرب والعالم العربي، في بناء مؤسسات تعليمية وطبية وثقافية وتجارية مهمة استفادت منها المنطقة بأسرها.
إننا مازلنا نحاول مداواة الجراح الناجمة عن حرب 2006، واحتمال اندلاع حرب أخرى يزيد الأمور سوءًا . ويدعو البعض إلى الانفصال والتقسيم، ويؤثر المتطرفون والمتشائمون على النقاش.
كانت الظروف مختلفة في عام 2006. لقد نجونا من تلك الحرب لأن لبنان كان لديه دولة فاعلة برئيس وحكومة قوية وقيادية بالإضافة إلى برلمان منتخب. والأهم من ذلك أننا تمكنَّا من توحيد البلاد تضامنًا مع الضحايا. لقد حصلنا على دعم عربي ودولي قوي، بما في ذلك في الأمم المتحدة. لقد تم طلب آرائنا، وتمكنَّا من وقف الحرب من خلال مبادرة عربية ومشاركة دولية. كانت المبادرة العربية في الأمم المتحدة في الوقت المناسب وفعالة، و مثالًا ساطعًا للتعاون العربي. كان قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 الذي أوقف الحرب بمثابة إنجاز للتعاون العربي والدولي، وهو ما نحتاج إليه بشدة الآن في غزة.
وبعد توقف القتال في منتصف آب (أغسطس) 2006، تسارعت وتيرة تقديم المساعدة إلى لبنان، وخاصة من جانب دول الخليج، ولكن أيضًا من جانب المبادرات الدولية. فعاد الناس إلى قراهم في جنوب لبنان في غضون أسبوعين، وكان الحافز وراء ذلك هو تقديم منح مباشرة لإعادة بناء منازلهم. وفتحت المدارس أبوابها بحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بعد شهرين من توقف الأعمال العدائية. كما لعبت الحكومة دورًا رائدًا في إعادة تأهيل البلاد. ولعبت قمة الزعماء الروحيين التي نظمتها البطريركية المارونية دورًا حيويًّا في الحفاظ على الوحدة في البلاد ودعم شعب جنوب لبنان. وكان عرض الوحدة الوطنية والتعاون أمرًا يبعث على الدفء. وانتعش الاقتصاد وشهدنا بعد ذلك نموًّا استمر لعدة سنوات.
مازلنا نحاول مداواة الجراح الناجمة عن حرب 2006، واحتمال اندلاع حرب أخرى يجعل الأمور أسوأ.
ولم تظهر العواقب السياسية إلا بعد أن استقرت الأمور. فبعد أن وافق حزب الله بالكامل على القرار 1701 في مجلس الوزراء، تراجع عن موقفه وعارض علانية خطة النقاط السبع التي أنهت الأعمال العدائية. واستمرت الاغتيالات على فترات منتظمة. وأدى احتلال المنطقة التجارية الرئيسية في بيروت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، ثم الهجوم على المدينة في أيار (مايو) 2008، إلى إلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد. كما أدى الانقلاب ضد حكومة سعد الحريري في كانون الثاني (يناير) 2011 إلى إلحاق الضرر بعلاقاتنا مع بعض الدول العربية والمجتمع الدولي. وكل هذا، فضلًا عن تداعيات الحرب الأهلية السورية ، أدى في نهاية المطاف إلى الانهيار الاقتصادي الحالي والأزمة السياسية المشلولة.
لم يسبق للبنان أن انقسم إلى هذا الحد بشأن دور حزب الله مقابل دور الدولة. فمؤسسات الدولة تنهار؛ وللمرة الثالثة في نحو خمسة عشر عامًا، أصبحنا بلا رئيس وحكومة فعّالة، وبرلماننا معطل. وما زلنا نتعامل مع عواقب الحرب السورية، حيث يشكل اللاجئون السوريون ثلث السكان تقريبًا. ومن الصعب أن نتخيل كيف سينجو لبنان من حرب أخرى من دون مساعدة دولية، نظرًا لأن مؤسساته مشلولة وشعبه منقسم. كما أصبحت البلاد معزولة؛ فلم يعد لدينا نفس المستوى من الدعم العربي والدولي الذي كان لدينا من قبل.
إن النتيجة الإيجابية للحروب هي أن يقرر الناس العودة إلى رشدهم في مواجهة أهوالها. فالحروب قد تؤدي إلى إعادة تقييم الأفكار والمؤسسات فضلًا عن مناقشة كيفية تجنب المزيد من الكراهية والدمار. وقد رأينا هذا في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية حيث أدت هذه العملية إلى إنشاء الاتحاد الأوروبي.
إن الفظائع التي شهدناها حتى الآن في غزة كافية لدفعنا جميعًا إلى الاتجاه الصحيح. ويتعين على كافة الأطراف أن تعود إلى رشدها وتجد السبيل إلى مستقبل أفضل. ولابد وأن تكون العدالة للفلسطينيين في صميم هذه الخطوة، حيث يحق لهم أن يتمتعوا بدولتهم المستقلة ذات السيادة.
إن القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، لها دور مهم تلعبه. ويتعين عليها إعادة تقييم دعمها المخزي لحرب إسرائيل، والتوقف عن دعم مغامرة مدمرة للذات من شأنها أن تهدد النظام الإقليمي والدولي برمته، وتنفيذ وقف إطلاق النار في أقرب وقت ممكن.
إن نتائج حرب غزة لا ينبغي أن تؤدي إلى المزيد من الحروب. ويتعين علينا جميعًا أن نعود إلى نقطة البداية ونعمل على خلق السلام في الشرق الأوسط من أجل الجيل القادم. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تركز كل الجهود على تجنب حرب مدمرة على لبنان.
عن صحيفة The National News بقلم فؤاد السنيورة رئيس حكومة لبنان الأسبق