لا حل قريباً في سورية، ولا في العراق، ولا في لبنان. فتّش عن إيران. ستكون “معجزة” مفاجئة أن تظهر بداية حلٍّ في اليمن، وهي لن تحصل إلا اذا نال أتباع ايران تنازلات تمكّنهم لاحقاً من استعادة زمام المبادرة لإعادة الأزمة الى مربعها الأول. فالمشترك بين هؤلاء الاتباع أنهم لا يولون أهمية ل”السلم الأهلي” أو ل”الاستقرار” أو لمستقبل بلدانهم دولاً ومجتمعات، وتلك هي على ما يبدو احدى أكثر “قواعد الملالي” وتعليماتهم خطورةً وبشاعةً. البقاء في السلطة أو الاستحواذ عليها بالقوة هو الأهم عندهم: انظروا الى تهوّرات حكومات قاسم سليماني في بغداد، الى جرائم بشار الأسد وبراميله من أجل البقاء، الى إصرار الحوثيين على مصير لتعز لا يختلف عن مصير حلب، الى تعطيل “حزب الله” الدولة والمؤسسات وتوجّهه الى العبث بالنظام المالي وهو آخر ما تبقّى من مقوّمات الاستقرار في لبنان.
الحل في سورية، كما يراه الإيرانيون، هو مفتاح الحل في العراق، وفي لبنان. بل حتى في اليمن لكن مع بعض الفوارق لأن طهران لم تستطع استكمال “تطييف” المواجهة بسبب عدم استعداد اليمنيين لتجرّع السموم التي ضُخّت في مجتمعهم. أي حل مبني على بقاء سورية “موحّدة” سيشكّل نكسة كبرى لمشروع الإيرانيين وأطماعهم، حتى لو انبثق هذا الحلّ من مفاوضات تبذل فيها موسكو كل جهد لإفراغ بيان جنيف والقرارات الدولية من أي مضمون يشير الى “انتقال سياسي”. ففي سورية موحّدة لا تطمئن طهران الى أي حكم اذا لم يكن بشار الأسد نفسه على رأسه، ولا تطمئن الى أي بديل يماثله أو ممن ارتبطوا بها وقدّموا اليها فروض الولاء والطاعة. ونُقل عن مصدر أممي أن ستافان دي ميستورا طرح مرّة على محاوره الايراني فرضية أن الأسد قد يختفي من المشهد لسبب أو لآخر، وسأل: ما هو موقفكم في هذه الحال؟ أجاب الآخر: هذه فرضية مستبعدة تماماً ولا نفكّر فيها.
وفي سورية موحّدة تعود ايران الى مواجهة واقع وحقيقة ليسا في مصلحتها، اذ لن يكون في الإمكان تجاهل التركيبة الديموغرافية، المختلفة هنا عمّا هي في العراق حيث ابتلع شيعة ايران الشيعة العرب ووظّفوا تغليب الأكراد عرقيّتهم على سنّيتهم ليتمكّنوا من تهميش السنّة وعروبتهم. أمّا في سورية فيراد للأقلّيات أن تهمّش ما يزيد عن ثلثي الشعب، لكن مهما قُدِّمت مسألة “حماية الأقليات” أو غُلِّبَت كأولوية لا يمكن اعتبارها أساساً لوضع عادل ودائم ومستقرّ. واذا كانت التجربة الأسدية (العَلَوية) وفّرت نموذجاً يناسب إسرائيل وإيران في آن، بالاضافة الى روسيا، إلا أنها كانت كارثية على مستوى الداخل، ليس فقط بالنسبة الى الغالبية السنّية بل كذلك للأقليات الطائفية والعرقية كافة، ورغم ضراوة الصراع الحالي لم تنزلق سوى فئات محدودة في المعارضة الى الهاجس الطائفي، لأن المشكلة لم تكن في طائفة الاسد أو مذهبه بل في سلوكه الاستبدادي المفرط، ولذلك فإن مصيره في سورية الموحّدة، أو “المفيدة”، أو المقسّمة، لن يختلف، ولا بقاء له كما لا بقاء لحلفائه الايرانيين في أي سورية إلا بدوام الحرب الراهنة الى ما لا نهاية. أما تحدّياته في خطابه الأخير فلا تقلق ارهابيين أو غير ارهابيين بمقدار ما تقلق جمهوره وبالأخص أبناء طائفته.
قد لا تختلف الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل كثيراً عن إيران والنظام في كونها لا تريد أيضاً نهايةً قريبة لهذه الحرب. فلديها نظام يلائمها جميعاً، لهذا السبب أو ذاك، لكنه لا يصلح للمضي معه نحو أي حل، أياً تكن صيغته. ولديها شعب لا يلائمها جميعاً، لأسباب شتّى جعلتها تجهله وتتجاهله يوم كان صامتاً وخائفاً، ولم تشأ أن تعرفه وتعترف به منذ انتفض لحرّيته وكرامته. والأهم أن لدى هذه الدول تصوّرات متباينة بل متناقضة للحلّ الذي يمكن أن ينهي الحرب. لم يعد مجهولاً أن “الحلّ السياسي” لا ينفك يضيع بين الهدنات المتساقطة وقوافل المساعدات المحتجزة والهجمات التي يبرمجها النظام وايران ويتكيّف معها الروس.
وقائع كثيرة في هذه المرحلة باتت تذكر بأساليب اسرائيل والولايات المتحدة في إحباط القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، أو حتى اتفاقات مع الفلسطينيين، بإغراقها بالتفسيرات وتمييعها لتفقد تباعاً زخمها ثم جدواها ثم أي مغزى وفاعلية قانونيين، فيما تمضي اسرائيل في تغيير الوقائع على الأرض. إذ تضافرت جهود روسيا وايران والنظام لإحالة القرار 2254 و “بيان جنيف” ومختلف مرجعيات التفاوض الى مرحلة لاحقة. وكما كان ولا يزال يُقال للفلسطينيين انتظروا الادارة الأميركية المقبلة، يقال اليوم للسوريين لا أمل يرتجى مع اوباما انتظروا من سيأتي بعده. والمشكلة في هذه الوصفة المسكِّنات هذه أنها لم تأتِ يوماً بأي جديد يمكن الرهان عليه، طالما أن المصالح هي المصالح. لكن، في الانتظار، يريد الاسد “استعادة كل شبر من الأرض السورية”، هكذا قال عشية اجتماع وزراء الدفاع الثلاثة في طهران، ولا شك في أن الايرانيين متّفقون معه، أما الروس فراغبون لكنهم لم يحسموا أمرهم بعد. ذاك أن المزيد من التغيير في الخريطة الميدانية بات يعني سلسلة من المذابح الكبرى، وليس سفك الدماء ما يستدعي تردّد موسكو إلا أنه يتطلّب ارسال مزيد من القوات والاستعداد للتورّط أكثر، وهو ما لا تزال تتجنّبه. وعدا ذلك فإن الحل العسكري المطلوب ايرانياً وأسدياً لا يقتل كل حلٍّ سياسي فحسب بل يعدم أي توازن في عموم المنطقة.
اعتمد نظام الأسد وإيران على القوة العسكرية والثقل الدولي لروسيا التي غيّرت معادلات الصراع لمصلحتهما، لكنهما يعتمدان الآن على نقاط ضعفها وهي تكمن في حساباتها الاستراتيجية في مواجهة اميركا، وفي الأهداف التي حددتها لتدخلها في سورية، وفي تراجع خبراتها وإمكاناتها لإدارة بلد في حال حرب أهلية بعيداً من حدودها وعن الجمهوريات الهشّة التي تهيمن عليها. ويعرف نظاما الاسد والملالي أنهما عملا على تعقيد الواقع داخل سورية بحيث يصعب على أي قوة خارجية الاقتراب منه وترويضه. لذلك تبخّر الكثير من الأفكار والخطط التي تحدّث عنها الروس في البداية، ولعل أكبر خيباتهم أنهم لم يتمكّنوا من وضع الجيش في الواجهة واضطروا للتكيّف بقبول الميليشيات، وهي عماد الاستراتيجية الايرانية في سورية وسواها. ومن خلال سيطرتهما على الواقع يكون نظاماً الاسد والملالي قد تموقعا للتحكّم بأي تسوية للصراع السوري.
كانت موسكو مدركة هذا الوضع الإشكالي، ولذلك سارعت الى اقامة تنسيق عسكري مع إسرائيل ودفع العلاقة معها الى أقصى حالات التقارب، وهو ما لم يُغضب الأسد فيما واجهه الإيرانيون بالصمت المطبق رغم الكلفة العالية التي يتحمّلونها سواء بالخسائر التي يتكبّدها “حزب الله” من قادته وكوادره أو على الأقل بالانكشاف التاريخي لزيف شعارات الممانعة والمقاومة التي يرفعونها. كما أن موسكو استخدمت لقاءات فيينا للتسلّح بغطاء دولي ل “مشروعية” دورها وتعويض النقص في أهليتها لقيادة الملف. فبعد تجربة الهدنة، وبعد اخفاق الاجتماع الأخير ل “المجموعة الدولية لدعم سورية” في تحديد موعد لاستئناف مفاوضات جنيف، وكذلك بعد افتضاح العجز عن إيصال المساعدات الانسانية الى المناطق المحاصرة، بات الجميع يعرف أن الكلمة العليا ليست لروسيا وإنما لنظام الأسد وإيران، والأخيرة مشاركة في لقاءات فيينا. وفيما ترى عواصم أوروبية عديدة أن التطورات تجاوزت “صيغة فيينا”، فإن السؤال يُطرح بإلحاح الآن عمّا اذا كان الروس والاميركيون بلغوا أقصى ما يستطيعون، وهل يطلبون مساعدة ايران، وبأي ثمن؟
الحياة