صحيفة العرب _ أحمد أبو دوح
في أحد أهم مشاهد فيلم “ذا بوست”، الذي جسد فيه توم هانكس شخصية بن برادلي، رئيس تحرير صحيفة “واشنطن بوست” في مطلع السبعينات، حاول فرض إرادته، في مؤتمر عقد عبر الهاتف، على رئيسة مجلس الإدارة كاي غراهام (ميريل ستريب)، وأعضاء المجلس الآخرين الذين كانوا يعارضون نشر الصحيفة وثائق سرية تفضح تجاهل إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون لتحذيرات وزارة الدفاع منذ البداية بأن حرب فيتنام خاسرة.
حاول هانكس إلقاء كل الثقل الذي كانت تتمتع به الصحافة آنذاك في وجه نيكسون. كانت الصحافة وقتها تعبيرا عما هو أكبر من القوة النووية. القنبلة الذرية كانت القوة الوحيدة القادرة على تدمير المجتمع وإعادته إلى القرون الوسطى، أما الصحافة فكانت القوة الوحيدة الموازية التي تستطيع تغيير المجتمع وأخذه إلى الأمام.
دور توم هانكس كان وضع السلطة أمام مسؤوليتها، كـ”نبي” المحاسبة الذي ترسله الجماهير ليكون رقيبا على ما يفعله الناس الجالسون أعلى السلم.
هذا هو الدور الذي مازالت الصحف ووسائل الإعلام الأميركية مؤمنة به إلى اليوم في مواجهة إدارة الرئيس دونالد ترامب. هذا تصرف صحيح، لكن في جوهره يكمن الخطأ.
كل ما يفعله الصحافيون الآن هو محاولة تجسيد دور بن برادلي (توم هانكس) من خلال خوض فصل جديد من المعركة الأزلية بين السلطة والصحافة بنفس أدوات برادلي التي استخدمها قبل أكثر من 45 عاما.
وصل الصحافيون إلى أبعد الطرق في مواجهة الحكم، لكن ما لم يصلوا إليه بعد هو الإجابة على السؤال: هل باتت الصحافة حقا قادرة على المشاركة في صنع قرار السلطة، أو إجبارها على تغييره؟ مراسل قناة “سي أن أن” جيم أكوستا كان خارج الواقع تماما عندما اعتقد، بعد المشادة الشهيرة التي حدثت على الهواء بينه وبين ترامب، أنه مازال يمثل رقما مساويا للرئيس. لم يدرك أكوستا أن الصحافة خسرت مساحات كبيرة من الأرض، وأن مدافع الترامبية الجديدة باتت تدك حصونها الأخيرة.
المعادلة اليوم باتت هكذا: ترامب، الذي استحوذ على كل القوة التدميرية لمواقع التواصل الاجتماعي، في مقابل عدو فقد “القوة النووية” وغير النووية التي كان يمثلها في السابق. لم تكن عبقرية الرئيس هي التي هزمت “سي أن أن” وواشنطن بوست ونيويورك تايمز وغيرها، بل كان تويتر هو الذي غير المعادلة.
كان طبيعيا في السابق أن يجلس الرئيس الأميركي في المكتب البيضاوي ويتلقى اللكمات الصحافية الواحدة تلو الأخرى دون أن يكون قادرا على الرد. أخيرا وجد الرئيس سلاحا جديدا يمكنه أن يحسم المعركة مع الصحافة حتى قبل أن تبدأ.
لا تكمن المسألة فقط في قدرة ترامب على التخلص من الوسيط الصحافي بينه وبين الجمهور، وقدرته على التواصل مباشرة معهم عبر تغريداته التي لا تنضب، بل صارت مرتبطة بتغير وعي الناس أيضا.
اليمين الشعبوي منح الناس ميزة لم يحصلوا عليها من قبل، وهي قدرته على تمثيلهم مباشرة في الحكم. معادلة الرئيس الذي يخضع لرقابة من قبل صحافة، تمثل إحدى قوى الضغط، لم تعد قادرة على تلبية طموحات الناس الباحثين عن التغيير السريع. ترامب قدم نفسه باعتباره الممثل الشرعي الجديد لهذه الطموحات، والقادر على حمل أجندتهم معه إلى الرئاسة.
لماذا إذن التمسك بدعم هؤلاء الناس الذين لا يملكون سوى قلم وكاميرا ومدونة صغيرة يركضون بها في كل مكان كي يحققوا في النهاية رقابة لم تعد فعالة على مؤسسات تقليدية لا تريد التغير. ها هو الرئيس شخصيا يعدهم بتغيير هذه المؤسسات من أعلى، وإلى الأبد!
مراسل قناة “سي أن أن” جيم أكوستا كان خارج الواقع تماما عندما اعتقد، بعد المشادة الشهيرة التي حدثت على الهواء بينه وبين ترامب، أنه مازال يمثل رقما مساويا للرئيس. لم يدرك أكوستا أن الصحافة خسرت مساحات كبيرة من الأرض، وأن مدافع الترامبية الجديدة باتت تدك حصونها الأخيرة
مشكلة الصحافيين أنهم عولوا كثيرا على إمكانية تراجع ترامب عن وعوده الانتخابية بمجرد دخوله البيت الأبيض. الجميع توقع أن يتصرف كرئيس حقيقي، وأن لغة الانقسام والعنصرية والوعود المفتقرة إلى الواقعية، التي أطلقها خلال الحملة، كانت فقط أدوات لحشد الأصوات، لكن بعد توليه الرئاسة تفاجأ الصحافيون بأن ترامب لم يخدع الناس. هنا بدأ البساط يسحب تدريجيا من تحت أقدامهم.
الناس، في أي صراع، يميلون إلى الطرف الأقوى الذي يستطيع تحقيق مصالحهم. معركة القيم التقليدية، التي بدا أن الصحافيين قد ذهبوا فيها بعيدا بشكل يفصلهم عن الواقع ويحولهم إلى “قبيلة نخبوية” لا علاقة لها بتطلع القارئ العادي، قسمت ظهر الإعلام. لم يشعر الصحافيون بحساسية اللحظة التاريخية التي يمثلها صعود ترامب. اعتقد الكثيرون منهم أنه ظاهرة عابرة لن تصمد في مواجهة قوة المؤسسات الراسخة وتحكمها بمفاصل الدولة.
عندما كان بن برادلي يحارب نيكسون بسبب حرب فيتنام، كان يعبر حينها عما يريده الأميركيون حقا، وهو الحفاظ على أرواح أبنائهم الذين تحولوا إلى وقود في حرب لا أفق لربحها. هذه القوة عبّر عنها لاحقا بوب وودورد وكارل برنستاين بعدما أطاحا بالإدارة الأميركية كلها على وقع فضيحة “ووترغيت”.
هل يستطيع أحد اليوم أن يقول إن الصحافة، في الغرب أو في العالم العربي، تعبر فعلا عن تطلعات الناس؟ هل بإمكاننا نحن الصحافيين أن نرفع رؤوسنا عاليا ونعطي الناس محاضرات في شرف المهنة وقيمها المهنية؟ هل لا نزال حقا جزءا من ضمير المجتمع وعينه التي من المفترض أن تكون مفتوحة على فساد السلطة وقمعها؟
من يستطيع أن يرد على هذه الأسئلة بـ”نعم” فليتقدم الصفوف ويأخذ المبادرة ويقودنا خارج هذا الممر المعتم الذي يمثله عصرنا البائس.
القارئ بات يشعر اليوم أنه سقط من حساب الصحافي وهو يكتب خبره أو مقاله. كل ما يهم الصحافي اليوم هو أن يحصل على إطراء من مسؤول جالس في مكان ما، أو يعبر عن آراء نخبوية يؤمن هو بها، ولا يهمه إطلاقا إن كانت تمثل أي معنى لقارئه.
الصحافة الغربية دائما هي منبر الليبرالية وحصنها. كانت الصناعة قائمة على عقائد لها صدى في الشارع، وتتسق مع قارئ يعيش عصر الصراعات الأيديولوجية بامتياز. اليوم أسرفت الصحافة في التعبير عن قيمها بنخبوية، في وقت ينحسر فيه مد الليبرالية القيمية أمام اجتياح يميني وقح.
في العالم العربي المعادلة معكوسة. الناس يتوقون للحرية والتحرر من عصر الظلام الذي أعقب موجة ثورات مراهقة وعشوائية وتفتقر إلى النضج. لا يعني ذلك مطلبا شعبيا بالديمقراطية.
العرب في أغلبهم لا يعرفون بعد معنى الديمقراطية، ولا تمثل رقما متقدما على قائمة أولوياتهم. ثمة أساسيات تعبر عن الحرية الشخصية والأمن والاستقرار والازدهار هي ما يبحث عنها القارئ العربي، بعيدا عن الشكل التقليدي للأنظمة السابقة.
الصحافة على الجانبين تبدو منهكة ومرتبكة وتائهة. لا هي تتجاوب مع ما يريده الناس في الغرب، ولا هي معبرة في نفس الوقت عن تطلعاتهم في العالم العربي. مع الوقت بات الناس، هنا وهناك، يشعرون بأن هؤلاء الصحافيين يتحولون إلى عبء على مجتمعاتهم.
في النهاية استطاع برادلي وزملاؤه في الولايات المتحدة كسب المعركة ووقف الحرب، عندما كسبوا أولا معركتهم الشخصية مع الحكم. لم تكن أمام الناس فرصة للتفكير في ما يجب عليهم فعله، أو مع من يقفون. اختاروا، من دون تردد، دعم الصحافيين وقضيتهم.
اليوم أيضا لن يقف الناس معنا إلا إذا عبرنا عن قضية واضحة تمسهم وتعبر عما يحلمون به، بدلا من أن نضيع الوقت في القتال من أجل قضايا وقناعات تعبر عنا نحن فقط، كما فعل جيم أكوستا مع ترامب.
لا تلوموا الناس إذن عندما يقفون ضدنا ويدعمون ترامب!