في 23 آب عام 2020، كان يوماً غير عادي، ذهبت مع أصدقاء لم أعرفهم إﻻ وقت موعد الرحلة أو مغامرة عبور الحدود والذهاب إلى “أدرنا “المدينة التركية، المطلة على النهر (إيفروس) الفاصل بين تركيا و اليونان.
تجاوزنا النهر والطريق ودخلنا في الغابات، نمشي طوال الليل وفي النهار نبقى في مكاننا تحت ظلال الأشجار، كلنا أمل أن تجري أمورونا بكل خير، لكن ما حصل معي أني قد تعبت جداً في اليوم الرابع جداً، فلم أستطع السير، فما كان من رفاقي إلا أن حملوا بعضاً من حاجياتي الكثيرة، كي يخف وزن الحمل الثقيل علي، لكن حرارة الجو في الليل والنهار التي لا تطاق، وعدم تقبلي للأكل أبداً أتعبني جداً.
قلت لهم اذهبوا وأكملوا طريقكم ﻻ تتوقفوا من أجلي، هنا بدت عليهم أثار الحزن و الحيرة لأجلي، فقالوا لي لن ندعك هنا في مكان غير مأهول في وسط هذه الغابات الموحشة، إذاً تحمل معنا قليلاً حتى نصل قرب منطقة عسكرية على الطريق، فأنا لم أكن أفكر في أن أسلم نفسي للشرطة، لكن كنت أريد الراحة كلما أمشي بضعة أمتار، وكأني لم أعد أكترث بأني في طريق تهريب.
عندما وصلنا تلك النقطة في الليل، كان يتوجب علينا الركض من أجل الابتعاد عنها لكني كنت متعبا ولا أستطيع الركض . فما أن وقعت على الأرض تحت الأشجار، حتى عجزت عن الحركة.
بعد فترة زمنية حاولت القيام، مشيت قليلاً وجدت طريقاً مزفتا، فلا أدري أين أتجه، قلت سأحاول اللحاق برفاقي أو المشي خلفهم وإن تأخرت. .
ذهبت للنقطة العسكرية مع بداية الشمس، لم يلحظني أحد، و رأيت ضوء غرفة مشتعلا، خرج عسكري بعدها ينفض غطاءه و كنت مرمياً بجانب السور الشبكي للمكان، فبدأت بالتلويح له بيدي المنهكة من غير صوت لأن صوتي لا يكاد يخرج، فخرج عسكري أخر ويبدو طيباً ، جاء نحوي و رأى حالتي المتعبة ، ملابسي الممزقة و أثار الجروح على يدي، و الغبار الذي يغطي وجهي، طلبت منه ماء فأحضر لي زجاجة ماء مثلجة، لم أذق طعم الماء المثلج منذ أسبوع في هذا الوقت الشديد الحرارة، طلبت منه إرشادي إلى مدينة “كومنتيتي” فقال لي اذهب بهذا الاتجاه، شكرته وذهبت وهو ينظر إلي مع رفاقه، وأنا ألوح مودعاً لهم .
قد يكونوا قد تعجبوا كيف لهذا اللاجئ أن يأتي بهذه الجرأة، ويطلب المساعدة، لكن أنا وقتها من شدة التعب، لم أكن لأستطيع أن أخفي نفسي، فليس معي دليل ولا هاتف أستطيع تعقب النقاط التي توصلني.
ذهبت بالاتجاه الذي ذكره لي، وكل بضع عشرات الأمتار أتمدد على طرف الطريق، وتراني السيارات الذاهبة والقادمة و تفتح “زماميرها” علي، ولا يستطيعون المساعدة خوفا من الشرطة، حتى وصل بي راعي بقر، شاهدني وكان متجهاً للبيت فبقيت أنتظره وعندما عاد أحضر لي علبة ماء وعصير و خبز و طماطم.
أكلت واستجمعت قواي لأجل أن أكمل. فبدأت أمشي على قدر استطاعتي وأرتاح وقت ما أتعب، هكذا حتى برزت لي على طول الطريق بمراوح التوليد وأضوائها الحمراء البراقة، كأنها تقول لي اتبع هذه الأضواء، في الليل بدت لي إنارة قرية، كنت لا أريد المجازفة في المشي في الطرقات الزراعية، فبقيت في الطريق المزفت.
وصلت إلى بيت له فناء كبير وبه شجر تفاح وعنب، فبقيت عند سور البيت حتى طلوع الشمس، فخفت أن يراني أحد، فدخلت الفناء وبقيت لوقت طويل، لكن لا أحد يخرج من البيت، بقيت حتى توقفت سيارة أمام البيت فإذا برجل وامرأة في الستين من العمر، فحاولت الوقوف وأن أعتذر إن دخلت بيتهم بشكل غير جيد.
لكن طلبا مني أن أرتاح، سألاني كيف وصلت و من أي بلد، كانت المرأة تتحدث قليلاً التركية، و بدأت أناديها و بدأت تجهز لي فطيرة بالجبن مع الشاي، كنت أتناول ببطء شديد لأني لا أستطيع الأكل و جوفي جاف، كانا يتجهزان لمغادرة البيت.
قبل ذلك بدأت تسقي العشب والشجر بخرطوم الماء الكبير، فامتلأت الأرض ماءً فقمت ورميت نفسي وأتقلب على العشب المروي بالماء باحثاً عن البرودة.
وسمحت لي المرأة بقطف العنب والتفاح، هنا شعرت بأن التعب قد ذهب وأني أخذت فرصة كبيرة للراحة، لكن عدم معرفتي بالاتجاه كان صعبا علي.
وعندما كانا يريدان الخروج من البيت بعد أن سقت الأشجار، قلت لهما سأبقى في البيت حتى المساء من أجل التواري عن سيارات الشرطة ، فلم يمانعا ذلك .
مشيت في وسط القرية وأنا احمل حقيبتي ومعي عصا أتوكأ عليها. فشاهدتني امرأة كانت تسقي الزهور في بيتها، أشارت إلي فتوقفت ، فعبأت لي علبة من الماء و شكرتها و ذهبت .
بدأ الليل يخيم مسدلاً بسواده على كل مكان أمامي، وهذه الليلة الثالثة لوحدي على هذا الطريق، عرفت أنه يؤدي إلى “الكساندربولي” وباقي 23 كيلو متر إليها عندما حاولت قراءة قارمة كانت في القرية، هنا أملي زاد في الوصول أو في شخص يقدم لي المساعدة.
وصلت إلى منطقة عسكرية أخرى على يمين الطريق توقفت عند الباب قليلاً، فبدأت كلاب شرسة كثيرة من خلف الباب بالنباح علي. توجه عسكري باتجاهي وأنا أسأله هل هذا طريق “كومنتيني ” قال نعم و قدم الماء لي، الظاهر أن هذا الطريق يؤدي إلى “أليكساندربولي “وهناك تحويلة إلى “كومنتيني”. أنا أمشي ولا أعرف أين أمشي.
أكملت المشي بترقب شديد، بدا لي بناء على يسار الطريق، كانت توجد كنيسة اقتربت منها و فتحت الباب عسى أن أجد شيئا للأكل أو شخصاً ربما يساعدني، لكن لا أحد يوجد شمعتان فقط بلهبهما الضعيف تحاولان شق طريق لها وسط الظلام، ثم أغلقت الباب وأكملت مسيري.
وصلت إلى قرية أخرى، و افترشت في فسحة أمام بيت، سمعت أصوات النساء الكبيرات، وهن يتحدثن من على شرفات المنازل، ولا أظن أنهن قد رأينني.
خرجت من البيت امرأة كبيرة ، وبدأت تتحدث معي وأنا لا أعرف ماذا أقول لها ،مع نقاشنا الذي ملأ أجواء المكان ، خرج رجل كبير مع امرأته من البيت المقابل يمشيان على مهل، و جاءت امرأة أخرى و جاء رجل على دراجة كبيرة ، و التفوا حولي وأحضروا لي الطعام العصير والماء ، تكلموا عني ماذا يمكن أن يقدموه لي يبدو أن هذه القرى لم يمر بها من قبل مهاجرين أبدا، ربما أخذ الكلام بهم أن يبلغوا الشرطة وهي تضعني في مكان أمن ،ولا أبقى وحيدا في الغابات، قد لا يعرفون أن الشرطة تعيدني إلى تركيا .
أنا أعذرتهم لأنهم أبلغوا الشرطة لأن هذا الأمر قد حصل عندهم للمرة الأولى، أعرف البيوت التي نزلت بها، و مشاهد الغابات التي على مد البصر و القطع العسكرية التي مررت بها جيداً، أذكر وجوه الناس الذين قابلتهم وأشكرهم لما قدموه لي ولم يقفوا في طريقي، ستبقى تلك الصور في مخيلتي، ستأتيني كلما أشاهد أخبار اللاجئين و ما يلاقون من مشقة و تعب كبيرين.
أشكرهم لما قدموه لي ولم يقفوا في طريقي .
أتت الشرطة وقتها وكنت نائماً، وقالوا لي سوف نذهب إلى مكتب الشرطة، وكانوا جيدين معي لأني وقت استيقظت كنت بطيىء الحركة، لملمت أغراضي بهدوء، كانوا صبورين معي، وسألوني “هل لديك هاتف أو جواز سفر”، قلت لهم “لا ” هنا ظننت أنهم سيأخذوني إلى مكان أمن وربما يوصولوني لمخيم للاجئين، سألوني “هل أنت وحدك وكيف وصلت وحدك إلى هنا”، قلت لهم رفاقي أضعتهم.
هنا ظننت أنهم سيأخذوني إلى مكان أمن و ربما إلى مخيم داخل اليونان ، سألوني : هل أنت وحدك وكيف وصلت وحدك إلى هنا .قلت لهم : لا أدري ، أعرف شيئاً واحداً أني لوحدي في هذا الطريق المجهول .
أصعدني الشرطيان إلى سيارتهم المغلقة من الخلف ، أشبه ما تكون بسيارة لنقل البضائع ، لا يوجد أي كرسي فيها ، عليَّ الجلوس على أرضية السيارة ، كل شيء مغلق ، ماعدا فتحة صغيرة من أجل دخول الأوكسجين ،أستنشق منها النفسات الأخيرة في هذه االبلاد، أرمق منها إلى سعة الكون خارجها، كم هو جميل جداً ، أتابع بشدة ضوء القمر الذي لم يفارقني ، نوره الذي يسطع علي طوال الطريق ، بدأت السيارة تبطء تارة و تسرع أخرى ، و أنا أترنح داخلها و أهتز بشدة عند الانعطافات الجبلية .
بعد مسافة أكثر من نصف ساعة هكذا شعرت بالوقت لم أكن أعرف أين تتجه بي السيارة، دخلت مركز تجميع للمهاجرين، فتشوني وأخذوا الحقيبة فقط ورموها بعيدا عني، طلبوا مني خلع الحذاء أيضاً، هنا عرفت أنه مركز لترحيل اللاجئين إلى تركيا.
فتشوني، أخذوا الحقيبة فقط، رموها عند زاوية ربما تحوي 1000 حقيبة ، كانت أثار اللاجئين الأخيرة ، تعبر عن مشهد الألم و نهاية الحلم ، لم يكن معرضاً لبيع الحقائب ، سألني هل يوجد فيها/ فود / أي طعام فقلت نعم يوجد ، كان معي عدد من التفاحات التي قطفتها من بستان تلك المرأة، أعطوني هذه التفاحات فقط .
جاء رجل أخر ومعه مفاتيح كثيرة، وفتح البوابة الأولى ثم الثانية ثم الثالث دخلت لوحدي بعد أن أقفل البابين الأولين، كأني أدخل السجن أو الزنزانة، التي لم أدخلها مسبقا، ولو لليلة واحدة.
كان بعيداً عن أي قرية، بين الغابات، أنا الوحيد من سوريا والباقي حوالي 30 شخص من أفغان وباكستانيين، عندما دخلت وزعت كل التفاحات عليهم، أكلوها بنهم شديد بسبب الجوع، بالمقابل أعطاني واحداً منهم بعض البسكويت المكسر كان مثل الطحين.
أعادونا إلى النهر بعد منتصف الليل وقطعنا الأراضي التركية و رجعت إلى اسطنبول ، رفاقي الذين كانوا معي هم في صربيا الآن و أتواصل معهم كل فترة .
مازالت عيناي ترقب النظر إلى قطع تلك الحدود والوصول بأمن وسلام، لكن الطريق فيه مجازفات وصعاب لا أستطيع تحملها. أريد أن أصل لأرى أصدقائي أستمتع بالتحدث إليهم.
كل ليلة أتذكر تلك الحادثة و أرى صور المكان الذي مررت به عبر متصفح الخرائط على الأنترنيت.
قصة خبرية/طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع