نجيب جورج عوض – المستقبل
بعد دخول المأساة السورية عامها الخامس، ما زالت دوائر الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية (تقلدها ببغائية مخجلة المراكز والوسائل العربية) تصرُّ على تسميتها “الحرب الأهلية السورية.” وبرغم مرور خمسة أعوام، ما زلت أنا أصرُّ بعناد لا يكل في المقابل، وفي كل المناسبات التي شاركت وما زلت فيها في الحديث عن سوريا والدفاع عن مطالب شعبها، على أن أناهض هذه التسمية وأرفض رفضاً قاطعاً توصيف ما يحدث في سوريا بأنه “حرب أهلية سورية”. أرفض هذا، أولاً، لأنَّ ما يحدث في سوريا هو حرب ضد الأهالي السوريين، وليست حرباً يقومون هم بها. هي حرب تقوم على حسابهم وتصرف على نفسها من دمائهم وحياتهم ووطنهم. وأرفض هذه التسمية، ثانياً، لأنها تفترض ما لم يحصل في سوريا وما لا يحصل فيها في الواقع. وهما الأمران اللذان لا يمكن التنبه لهما إلا إذا عرّفنا بشكل واضح ودقيق من يقف وراء نشوب الحرب، وما إذا كان هذا الفاعل (أو الفاعلون) هم السوريون، وما إذا كان ما أراده السوريون من وراء نهوضهم ضد النظام، هو حرب أصلاً.
تعيدنا الإجابة عن هذه المسألة إلى تقصي سيرورة نشوء المشهد السوري وتطوراته في نظرة تراجعية استعادية مهمة، يجب أن نواظب على قولها من دون كلل كي تبقى للتاريخ وكي لا تنمحي الحقيقة من ذاكرة الناس. نعم، السوريون هم من بدأ القصة التي اندلعت أحداثها منذ خمسة أعوام مضت. السوريون ولا أحد آخر خرجوا إلى شوارع مدنهم في حراكات مدنية سلمية حضارية خالصة، يطالبون بالحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة وإزالة منظومة الفساد. خرجوا في تظاهرات مدنية يعلنون عن حلمهم السوري الصرف. ثمانية شهور كاملة لم يقولوا كلمة واحدة ضد شخص سفاح النظام، المجرم الأول في القرن العشرين، بل اعتبروه إلى جانبهم، وطلبوا منه أن يقود ربيعهم. ثمانية شهور وهم يقدمون للعالم صرخة لا تحمل أي عنف أو دعوة لحرب أو كراهية. هذه كانت ثورة بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معانٍ. هذه كانت ثورة سورية وبأيد سورية، وبأحلام سورية اقترفها الشعب السوري متعمداً وراضياً وشجاعاً وحراً.
إلا أنَّ ما حدث بعد ذلك، كما يعرف الجميع، كان أن تمت تصفية الثورة ودفعها للانتحار وتفريغها من مدنيتها وسلميتها، بل وبكل صراحة تفريغها التام من سوريتها ومن أحلام سورييها. سد النظام أذنيه عن كافة الدعوات والمطالب وقرر أن يختار حلاً عنفياً قمعياً أمنياً صرفاً بامتياز، دفع السوريين إلى حافة الصراع من أجل النجاة والبقاء. حوّل هذا الخيار، المشهد السوري من “ثورة” إلى “حرب”: لا حرب تحرير، بل حرب تدمير؛ لا حرب الدولة ضد الإرهاب (كما واظب النظام على الكذب)، بل حرب إرهاب السلطة وفجور الدولة ضد البشر والحجر. ولكن، أنا من المؤمنين بأن النظام بحد ذاته، لم يكن من حول المشهد السوري من ثورة إلى حرب. تحميله هذه المسؤولية، يتكرّم على هذا النظام الفاشل والغبي والمجرم والمهترئ، بقدرات ومؤهلات وذكاء وتخطيط هو أبعد ما يكون عنها وأقل بكثير من أن يحملها. من حوّل المشهد السوري إلى حرب وأجهض الثورة، ومن حوّل السوريين من ثوار إلى وقود للحرب؟ كانت هي الحرب الأقليمية التي بدأت تتمظهر في صراعات ميدانية مباشرة منذ عام 2005، والتي بلغت ذروتها وانفلتت بجنون من عقالها مع بداية عصر “الربيع العربي”.
لنتذكر معاً أنه في منتصف عام 2013 تقريباً، دخل حزب الله بشكل رسمي ومعلن إلى المشهد السوري واقتحم حرباً مباشرة هناك مع كتائب جهادية إسلاموية الهوية (جبهة النصرة وأشباهها من عصابات المرتزقة الآخرين). لم يكن هذا الدخول هو أول تدخل لحزب الله في المشهد، ولكنه كان حتماً الدخول الرسمي المعلن. يومها، ترافق هذا الدخول مع خطاب عام ألقاه السيد حسن نصر الله دعا فيه بشكل مباشر، السنّة للقتال في الأرض السورية وجعلها مسرح المعركة بين المعسكرين الإسلاميين الطائفيين في المنطقة. لم يكن حسن نصر الله يتحدث يومها باسم حزبه وجمهوره اللبناني، ولم يكن يخاطب الجمهور اللبناني المضاد فقط. كان يعلن قراراً إيرانياً ودعوة من نظام الملالي وحرسه الثوري (الحاكم الفعلي في إيران) للقوى السنية في المشرق للدخول إلى ساحة إثبات ذات وعراك فاصل، يحدد من يملك المنطقة، انطلاقاً من الأرض السورية. قبل تلك الدعوة، كانت إيران قد بدأت الشروع في تلك الحرب مع السنّة في المنطقة من خلال مناوشات قامت بها حين حاولت إشعال الشارع البحريني، وشراء علي عبدالله صالح ودفعه لعرقلة السلطة البديلة في اليمن بمساعدة الحوثي، وشجعت الأكراد على إثارة قلاقل ومشاكل ضد النظام الإسلاموي التركي، وعملت على فرض سيطرة حزب الله الفجة والعلنية على كافة مفاصل السلطة والحكم والدولة في لبنان بشكل غير مسبوق. إلا أنَّ العقل الإيراني “الاستراتيجي” لم يجد صعوبة في ملاحظة أن نظام الأسد في سوريا سائر بنفسه نحو تحويل سوريا إلى ساحة مثالية للقتال والمواجهة من خلال عنفه المستطير وإصراره على شيطنة الشعب السوري ومطالبه، ودفعه الممنهج والفاجر للسوريين للتحول إلى مقاتلين غصباً عنهم. قدم النظام السوري نفسه بشكل لا لبس فيه للإيراني على أنه متعطش كي يرتمي في حضن الملالي، ويكون أداتهم في حربهم ضد العمق العربي السني الأوسع، حالماً بأن يضمن هذا له البقاء في السلطة في سوريا ومراهناً على قدرة الإيراني على الانتصار في المعركة المذكورة. شرَّع النظام الأسدي، بخياره الأمني، سوريا برمتها لتصبح حلبة القتال بين السني والشيعي، موفّراً على الإيراني وعلى المعسكر السني تكاليف فتح الاقتتال على جبهات عدة في الوقت نفسه وأعباءها الباهظة. تركز القتال في حلبة واحدة رئيسية مركزية، وهدأت المناوشات وقتها في كل من البحرين واليمن ولبنان. باتت كل الجهود منصبة على الفوز بالقتال في الساحة السورية.
تحولت سوريا من أرض “ثورة سوريين” إلى ساحة “قتال سني – شيعي على حساب السوريين وسوريا”. من جهة أولى، دخل حزب الله إلى الساحة السورية بشكل معلن، ونقل قاسم سليماني مكتب عملياته إلى دمشق وصار الحاكم التنفيذي الفعلي فيها، تساعده سكرتاريا ثانوية القرار مؤلفة من سفاح دمشق وحلقته الضيقة، ودخلت كتائب مقاتلة علوية من المناطق التركية المحاذية للحدود السورية الشمالية، كما دخلت كتائب شيعية عراقية للقتال في سوريا، وفتح نوري المالكي سجونه وأطلق سراح المئات من الإرهابيين (الذين كانوا يحيطون بأبي مصعب الزرقاوي، مؤسس الدولة الإسلامية في سوريا والعراق بعد الغزو الأميركي للعراق، بحجة محاربة الغرب والدفاع عن حقوق السنة في عراق ما بعد – صدام) ودفعهم لعبور الحدود نحو الحلبة السورية ومن ثم لتأسيس “داعش” والشروع بخدمة مشروع الهيمنة واللعب على حبال الأطراف المتصارعة. من جهة أخرى، استجابت الدول السنية المعنية، السعودية وقطر وتركيا، للدعوة الإيرانية، فأسست كتائب جهادية إسلاموية صرفة لا علاقة لها بشكل فعلي بالجيش السوري الحر (الذي نشأ نتيجة لتجمع الجنود السوريين المنشقين عن الجيش النظامي بسبب رفضهم إطلاق النار على أهلهم وأبناء بلدهم) من أمثال جبهة النصرة وسواها من الكتائب ذات الصفة الإسلاموية السنية الصرفة، المعاكسة في هويتها ومنطقها لكل ما نادت به الثورة السورية وحلم به الشعب السوري، بل إنها أحد أعداء هذه الثورة. دُفعَت تلك الكتائب لإخلاء الساحة السورية وتهيئتها للمعركة العتيدة من خلال دفع السوريين الثوريين السلميين لإخلاء الساحات والشوارع والأبنية والحارات، بل المدن والقرى برمتها، والتشرد في الأرض بلا هدى، ومن خلال التضييق على الجيش السوري الحر وتهميش ضباطه وقياداته ودفعها لترك الساحة لقادة عصابات وأمراء حروب، ثم من خلال حرمان الجيش الحر من أي عتاد أو سلاح أو وسائل تمكنه من مواجهة ضربات النظام المميتة له. وجد هذا الجيش نفسه ضحية هجمات وأذية من قوات النظام وأنصاره الكتائب الشيعية من جهة، وقوات الكتائب الإسلاموية الجهادية السنية وتحكمها وتلاعبها به، بل تصفية عناصره أحياناً، من جهة أخرى.
فرغت الساحة السورية، في المحصّلة من أي مظاهر ثورة لأنَّ سوريا أُفرغَت بشكل ممنهج ومحسوب بدقة، ومن قبل الطرفين المتحاربين على الحلبة، من أهلها السوريين الذين خلقوا الثورة وحلموا بربيعهم الخاص. تم إخلاء البلد تماماً وبشكل حرفي، وتم إيجاد دياسبورا سورية تاريخية تعيش بحثاً عن نجاة في أصقاع الأرض. تحولت سوريا إلى ما أريد لها أن تتحول بقرار اقليمي ومحلي وبدعم وتغطية دوليين: أرض معركة بين السني وممثليه والشيعي وممثليه. أما السوريون المغلوبون على أمرهم والعاجزون عن النزوح والتشرد خارج البلد (مع وجود أطراف سورية أخذت خياراتها بحريتها وانطلاقاً من قناعاتها الإيديولوجية والدينية) فقد اضطروا مرغمين، وبداعي التمسك الغريزي الصرف بالحياة، إما للتحول إلى أدوات في يد الطرف الشيعي، أو أدوات في يد الطرف السني. وطبعاً، لم يفتقد أي من الطرفين المتصارعين حلفاء سوريين له يركبون موجة الصراع ويحاولون أن يستثمروا فيه ويستفيدوا من تبعاته في محاولة يائسة لتحقيق أحلام وطموحات لطالما صبوا إليها وتمنوها. فنشأت أجسام معارضة سورية كرتونية وإعلامية الدور والطبيعة، بتمويل ودعم وتغطية سياسية ودولية من صنيعة المعسكر السني، وأجسام معارضة سورية أخرى لا تقل كرتونية وإعلامية الماهية بدعم وتغطية سياسية ودولية من صنيعة النظام والمعسكر الشيعي. وكما تصارع الإيراني وحلفاؤه مع السني وحلفائه من خلال معركة عسكرية ميدانية ضروس ودموية وعنيفة على الأرض السورية، تصارع الطرفان المذكوران إعلامياً وكلامياً ودبلوماسياً وخطابياً مع بعضهما أيضاً من خلال مسرحيات تنافس معارضات سورية لا تقل بهزليتها وانحطاطها عن المعركة الميدانية في الشراسة والعنف. أما السوريون وثورتهم، فلم يعد أحد يتحدث عنهما ولا يمثلهما ولا يكترث بهما إلا في الحد الأدنى: حد حفظ ماء الوجه أمام السوريين وآلامهم وعذاباتهم الفظيعة، ومحاولة تجنب مواجهة مسؤوليتهم ودورهم، المباشر أو غير المباشر، إلى جانب النظام المجرم في مأساتهم المفجعة والفظيعة.
بات الجميع دمى في خدمة المتحاربين الإقليميين. وباتت سوريا مشهد حرب، فقط حرب، ولم تعد فيها ثورة. طبعاً، ركن الجميع، المعارضات المصطنعة وأطراف الحرب الإقليمية والأطراف الدولية المتورطة في الحرب المذكورة على حد سواء، لتسمية الحدث السوري “حرباً أهلية سورية”. أي شي أفضل من تحميل مسؤولية المأساة السورية للسوريين من خلال تسميتها بحرب تقوم باسمهم وتقوم بهم، كما تعني التسمية المذكورة، ونزعها عن كاهل مقترفيها الحقيقيين. وأي شيء أكثر فائدة لإراحة الضمير العالمي والإقليمي والإنساني من حمام دم وموت سوريا والسوريين، من القول أن ما يحصل في سوريا هو حرب بين الأهالي وبيد الأهالي، ولا ذنب لأي طرف آخر فيها.
نعم، ما يجري في سوريا اليوم هو “حرب” ولم يعد “ثورة”. ولكنها ليست أبداً ولن تكون “حرباً أهلية” لأنها ليست حرب السوريين ضد بعضهم البعض، بل حرب الإيراني والمعسكر السني على حلبة سوريا ضد السوريين أنفسهم، جميعهم من دون استثناء، وقبل سواهم. سأظل أصرخ أمام العالم أجمع، أنَّ ما يجري في سوريا ليس “حرباً أهلية سورية”. وسأظل أصرخ أن ما أراده السوريون ومازالوا هو “ثورة ربيع سوري” ولا شيء آخر. الكل وقف ضد الثورة وضد السوريين. الكل يتحارب في سوريا اليوم لأجل كل شيء عدا سوريا وعدا السوريين.
ما يُشعر المرء بالقرف الأخلاقي والإنساني، هو رؤيته للغالبية العظمى ممن يقولوناليوم إنهم يمثلون الثورة ويدعمون المعارضة السورية، وهؤلاء لا يفعلون في الواقع سوى تمثيل أحد الأطراف المتحاربة، ولا يدعمون سوى إحدى القوى المتقاتلة في الحرب، ولا يدعمون ولا يمثلون لا أحلام السوريين ولا قيمهم. يثير الحزن الشديد، بل النفور الأخلاقي والقيمي، رؤية العديد من السوريين المحسوبين على المعارضة والمناهضين للنظام يحتفلون مؤخراً باحتلال جبهة النصرة الإرهابية وأشباهها الإسلامويين المعادين جهاراً للثورة، مدنية أدلب. لم يعد هؤلاء المصفقون والمطبلون كما يبدو، يكترثون لحقيقة أن العصابات المذكورة تعادي الثورة وتنكل بالشعب السوري بقدر معاداة النظام وتنكيله. ولا يدرك هؤلاء، كما يبدو، أنهم بحماسهم اللاأخلاقي، يعلنون وقوفهم مع الحرب وليس مع الثورة. المؤسف أن استبدال الثورة بحرب إقليمية على الأرضَ بات مصدر استبدال نفساني وذهني موازٍ في داخل الكثير من السوريين لمنطق وقيم وأخلاق ومبادئ وروح الثورة بلا منطق ولا أخلاق ولا مبادئ ولا روح الحرب والاقتتال. بدل أن يدين الجميع، تحوّل الثورة إلى حرب، انطلاقاً من أحلام الثورة، يهلل الجميع لانتصارات مؤقتة يحققها فصيل جهادي متطرف في الحرب على فصيل آخر بين الفينة والأخرى.
خمس سنوات من التفجع والموت والمأساة، يدفع ثمنها أحرار سوريا المواطنون المدنيون السلميون العزل، ويقبض هذا الثمن مجرمون من كل حدب وصوب ومن كل فريق وفصيل وطائفة وعقيدة (يا حرام يا سوريا). قلبي يبكيك دماً يا شعب بلدي الجريح. لا يستطيع الإنسان الذي يحرص على الحفاظ على إنسانيته وأخلاقه وولائه لإنسانية وآلام الشعب السوري وأحلامه، إلا أن يلتزم الصمت المطبق وينزوي بعيداً عن مستنقع القذارة والعنف والنهلستية العميق الذي يغرق فيه الجميع. أفهم مثل خيار كهذا يتخذه السوريون اليوم، فأنا بت من أتباعه شخصياً.
تعيدنا الإجابة عن هذه المسألة إلى تقصي سيرورة نشوء المشهد السوري وتطوراته في نظرة تراجعية استعادية مهمة، يجب أن نواظب على قولها من دون كلل كي تبقى للتاريخ وكي لا تنمحي الحقيقة من ذاكرة الناس. نعم، السوريون هم من بدأ القصة التي اندلعت أحداثها منذ خمسة أعوام مضت. السوريون ولا أحد آخر خرجوا إلى شوارع مدنهم في حراكات مدنية سلمية حضارية خالصة، يطالبون بالحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة وإزالة منظومة الفساد. خرجوا في تظاهرات مدنية يعلنون عن حلمهم السوري الصرف. ثمانية شهور كاملة لم يقولوا كلمة واحدة ضد شخص سفاح النظام، المجرم الأول في القرن العشرين، بل اعتبروه إلى جانبهم، وطلبوا منه أن يقود ربيعهم. ثمانية شهور وهم يقدمون للعالم صرخة لا تحمل أي عنف أو دعوة لحرب أو كراهية. هذه كانت ثورة بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معانٍ. هذه كانت ثورة سورية وبأيد سورية، وبأحلام سورية اقترفها الشعب السوري متعمداً وراضياً وشجاعاً وحراً.
إلا أنَّ ما حدث بعد ذلك، كما يعرف الجميع، كان أن تمت تصفية الثورة ودفعها للانتحار وتفريغها من مدنيتها وسلميتها، بل وبكل صراحة تفريغها التام من سوريتها ومن أحلام سورييها. سد النظام أذنيه عن كافة الدعوات والمطالب وقرر أن يختار حلاً عنفياً قمعياً أمنياً صرفاً بامتياز، دفع السوريين إلى حافة الصراع من أجل النجاة والبقاء. حوّل هذا الخيار، المشهد السوري من “ثورة” إلى “حرب”: لا حرب تحرير، بل حرب تدمير؛ لا حرب الدولة ضد الإرهاب (كما واظب النظام على الكذب)، بل حرب إرهاب السلطة وفجور الدولة ضد البشر والحجر. ولكن، أنا من المؤمنين بأن النظام بحد ذاته، لم يكن من حول المشهد السوري من ثورة إلى حرب. تحميله هذه المسؤولية، يتكرّم على هذا النظام الفاشل والغبي والمجرم والمهترئ، بقدرات ومؤهلات وذكاء وتخطيط هو أبعد ما يكون عنها وأقل بكثير من أن يحملها. من حوّل المشهد السوري إلى حرب وأجهض الثورة، ومن حوّل السوريين من ثوار إلى وقود للحرب؟ كانت هي الحرب الأقليمية التي بدأت تتمظهر في صراعات ميدانية مباشرة منذ عام 2005، والتي بلغت ذروتها وانفلتت بجنون من عقالها مع بداية عصر “الربيع العربي”.
لنتذكر معاً أنه في منتصف عام 2013 تقريباً، دخل حزب الله بشكل رسمي ومعلن إلى المشهد السوري واقتحم حرباً مباشرة هناك مع كتائب جهادية إسلاموية الهوية (جبهة النصرة وأشباهها من عصابات المرتزقة الآخرين). لم يكن هذا الدخول هو أول تدخل لحزب الله في المشهد، ولكنه كان حتماً الدخول الرسمي المعلن. يومها، ترافق هذا الدخول مع خطاب عام ألقاه السيد حسن نصر الله دعا فيه بشكل مباشر، السنّة للقتال في الأرض السورية وجعلها مسرح المعركة بين المعسكرين الإسلاميين الطائفيين في المنطقة. لم يكن حسن نصر الله يتحدث يومها باسم حزبه وجمهوره اللبناني، ولم يكن يخاطب الجمهور اللبناني المضاد فقط. كان يعلن قراراً إيرانياً ودعوة من نظام الملالي وحرسه الثوري (الحاكم الفعلي في إيران) للقوى السنية في المشرق للدخول إلى ساحة إثبات ذات وعراك فاصل، يحدد من يملك المنطقة، انطلاقاً من الأرض السورية. قبل تلك الدعوة، كانت إيران قد بدأت الشروع في تلك الحرب مع السنّة في المنطقة من خلال مناوشات قامت بها حين حاولت إشعال الشارع البحريني، وشراء علي عبدالله صالح ودفعه لعرقلة السلطة البديلة في اليمن بمساعدة الحوثي، وشجعت الأكراد على إثارة قلاقل ومشاكل ضد النظام الإسلاموي التركي، وعملت على فرض سيطرة حزب الله الفجة والعلنية على كافة مفاصل السلطة والحكم والدولة في لبنان بشكل غير مسبوق. إلا أنَّ العقل الإيراني “الاستراتيجي” لم يجد صعوبة في ملاحظة أن نظام الأسد في سوريا سائر بنفسه نحو تحويل سوريا إلى ساحة مثالية للقتال والمواجهة من خلال عنفه المستطير وإصراره على شيطنة الشعب السوري ومطالبه، ودفعه الممنهج والفاجر للسوريين للتحول إلى مقاتلين غصباً عنهم. قدم النظام السوري نفسه بشكل لا لبس فيه للإيراني على أنه متعطش كي يرتمي في حضن الملالي، ويكون أداتهم في حربهم ضد العمق العربي السني الأوسع، حالماً بأن يضمن هذا له البقاء في السلطة في سوريا ومراهناً على قدرة الإيراني على الانتصار في المعركة المذكورة. شرَّع النظام الأسدي، بخياره الأمني، سوريا برمتها لتصبح حلبة القتال بين السني والشيعي، موفّراً على الإيراني وعلى المعسكر السني تكاليف فتح الاقتتال على جبهات عدة في الوقت نفسه وأعباءها الباهظة. تركز القتال في حلبة واحدة رئيسية مركزية، وهدأت المناوشات وقتها في كل من البحرين واليمن ولبنان. باتت كل الجهود منصبة على الفوز بالقتال في الساحة السورية.
تحولت سوريا من أرض “ثورة سوريين” إلى ساحة “قتال سني – شيعي على حساب السوريين وسوريا”. من جهة أولى، دخل حزب الله إلى الساحة السورية بشكل معلن، ونقل قاسم سليماني مكتب عملياته إلى دمشق وصار الحاكم التنفيذي الفعلي فيها، تساعده سكرتاريا ثانوية القرار مؤلفة من سفاح دمشق وحلقته الضيقة، ودخلت كتائب مقاتلة علوية من المناطق التركية المحاذية للحدود السورية الشمالية، كما دخلت كتائب شيعية عراقية للقتال في سوريا، وفتح نوري المالكي سجونه وأطلق سراح المئات من الإرهابيين (الذين كانوا يحيطون بأبي مصعب الزرقاوي، مؤسس الدولة الإسلامية في سوريا والعراق بعد الغزو الأميركي للعراق، بحجة محاربة الغرب والدفاع عن حقوق السنة في عراق ما بعد – صدام) ودفعهم لعبور الحدود نحو الحلبة السورية ومن ثم لتأسيس “داعش” والشروع بخدمة مشروع الهيمنة واللعب على حبال الأطراف المتصارعة. من جهة أخرى، استجابت الدول السنية المعنية، السعودية وقطر وتركيا، للدعوة الإيرانية، فأسست كتائب جهادية إسلاموية صرفة لا علاقة لها بشكل فعلي بالجيش السوري الحر (الذي نشأ نتيجة لتجمع الجنود السوريين المنشقين عن الجيش النظامي بسبب رفضهم إطلاق النار على أهلهم وأبناء بلدهم) من أمثال جبهة النصرة وسواها من الكتائب ذات الصفة الإسلاموية السنية الصرفة، المعاكسة في هويتها ومنطقها لكل ما نادت به الثورة السورية وحلم به الشعب السوري، بل إنها أحد أعداء هذه الثورة. دُفعَت تلك الكتائب لإخلاء الساحة السورية وتهيئتها للمعركة العتيدة من خلال دفع السوريين الثوريين السلميين لإخلاء الساحات والشوارع والأبنية والحارات، بل المدن والقرى برمتها، والتشرد في الأرض بلا هدى، ومن خلال التضييق على الجيش السوري الحر وتهميش ضباطه وقياداته ودفعها لترك الساحة لقادة عصابات وأمراء حروب، ثم من خلال حرمان الجيش الحر من أي عتاد أو سلاح أو وسائل تمكنه من مواجهة ضربات النظام المميتة له. وجد هذا الجيش نفسه ضحية هجمات وأذية من قوات النظام وأنصاره الكتائب الشيعية من جهة، وقوات الكتائب الإسلاموية الجهادية السنية وتحكمها وتلاعبها به، بل تصفية عناصره أحياناً، من جهة أخرى.
فرغت الساحة السورية، في المحصّلة من أي مظاهر ثورة لأنَّ سوريا أُفرغَت بشكل ممنهج ومحسوب بدقة، ومن قبل الطرفين المتحاربين على الحلبة، من أهلها السوريين الذين خلقوا الثورة وحلموا بربيعهم الخاص. تم إخلاء البلد تماماً وبشكل حرفي، وتم إيجاد دياسبورا سورية تاريخية تعيش بحثاً عن نجاة في أصقاع الأرض. تحولت سوريا إلى ما أريد لها أن تتحول بقرار اقليمي ومحلي وبدعم وتغطية دوليين: أرض معركة بين السني وممثليه والشيعي وممثليه. أما السوريون المغلوبون على أمرهم والعاجزون عن النزوح والتشرد خارج البلد (مع وجود أطراف سورية أخذت خياراتها بحريتها وانطلاقاً من قناعاتها الإيديولوجية والدينية) فقد اضطروا مرغمين، وبداعي التمسك الغريزي الصرف بالحياة، إما للتحول إلى أدوات في يد الطرف الشيعي، أو أدوات في يد الطرف السني. وطبعاً، لم يفتقد أي من الطرفين المتصارعين حلفاء سوريين له يركبون موجة الصراع ويحاولون أن يستثمروا فيه ويستفيدوا من تبعاته في محاولة يائسة لتحقيق أحلام وطموحات لطالما صبوا إليها وتمنوها. فنشأت أجسام معارضة سورية كرتونية وإعلامية الدور والطبيعة، بتمويل ودعم وتغطية سياسية ودولية من صنيعة المعسكر السني، وأجسام معارضة سورية أخرى لا تقل كرتونية وإعلامية الماهية بدعم وتغطية سياسية ودولية من صنيعة النظام والمعسكر الشيعي. وكما تصارع الإيراني وحلفاؤه مع السني وحلفائه من خلال معركة عسكرية ميدانية ضروس ودموية وعنيفة على الأرض السورية، تصارع الطرفان المذكوران إعلامياً وكلامياً ودبلوماسياً وخطابياً مع بعضهما أيضاً من خلال مسرحيات تنافس معارضات سورية لا تقل بهزليتها وانحطاطها عن المعركة الميدانية في الشراسة والعنف. أما السوريون وثورتهم، فلم يعد أحد يتحدث عنهما ولا يمثلهما ولا يكترث بهما إلا في الحد الأدنى: حد حفظ ماء الوجه أمام السوريين وآلامهم وعذاباتهم الفظيعة، ومحاولة تجنب مواجهة مسؤوليتهم ودورهم، المباشر أو غير المباشر، إلى جانب النظام المجرم في مأساتهم المفجعة والفظيعة.
بات الجميع دمى في خدمة المتحاربين الإقليميين. وباتت سوريا مشهد حرب، فقط حرب، ولم تعد فيها ثورة. طبعاً، ركن الجميع، المعارضات المصطنعة وأطراف الحرب الإقليمية والأطراف الدولية المتورطة في الحرب المذكورة على حد سواء، لتسمية الحدث السوري “حرباً أهلية سورية”. أي شي أفضل من تحميل مسؤولية المأساة السورية للسوريين من خلال تسميتها بحرب تقوم باسمهم وتقوم بهم، كما تعني التسمية المذكورة، ونزعها عن كاهل مقترفيها الحقيقيين. وأي شيء أكثر فائدة لإراحة الضمير العالمي والإقليمي والإنساني من حمام دم وموت سوريا والسوريين، من القول أن ما يحصل في سوريا هو حرب بين الأهالي وبيد الأهالي، ولا ذنب لأي طرف آخر فيها.
نعم، ما يجري في سوريا اليوم هو “حرب” ولم يعد “ثورة”. ولكنها ليست أبداً ولن تكون “حرباً أهلية” لأنها ليست حرب السوريين ضد بعضهم البعض، بل حرب الإيراني والمعسكر السني على حلبة سوريا ضد السوريين أنفسهم، جميعهم من دون استثناء، وقبل سواهم. سأظل أصرخ أمام العالم أجمع، أنَّ ما يجري في سوريا ليس “حرباً أهلية سورية”. وسأظل أصرخ أن ما أراده السوريون ومازالوا هو “ثورة ربيع سوري” ولا شيء آخر. الكل وقف ضد الثورة وضد السوريين. الكل يتحارب في سوريا اليوم لأجل كل شيء عدا سوريا وعدا السوريين.
ما يُشعر المرء بالقرف الأخلاقي والإنساني، هو رؤيته للغالبية العظمى ممن يقولوناليوم إنهم يمثلون الثورة ويدعمون المعارضة السورية، وهؤلاء لا يفعلون في الواقع سوى تمثيل أحد الأطراف المتحاربة، ولا يدعمون سوى إحدى القوى المتقاتلة في الحرب، ولا يدعمون ولا يمثلون لا أحلام السوريين ولا قيمهم. يثير الحزن الشديد، بل النفور الأخلاقي والقيمي، رؤية العديد من السوريين المحسوبين على المعارضة والمناهضين للنظام يحتفلون مؤخراً باحتلال جبهة النصرة الإرهابية وأشباهها الإسلامويين المعادين جهاراً للثورة، مدنية أدلب. لم يعد هؤلاء المصفقون والمطبلون كما يبدو، يكترثون لحقيقة أن العصابات المذكورة تعادي الثورة وتنكل بالشعب السوري بقدر معاداة النظام وتنكيله. ولا يدرك هؤلاء، كما يبدو، أنهم بحماسهم اللاأخلاقي، يعلنون وقوفهم مع الحرب وليس مع الثورة. المؤسف أن استبدال الثورة بحرب إقليمية على الأرضَ بات مصدر استبدال نفساني وذهني موازٍ في داخل الكثير من السوريين لمنطق وقيم وأخلاق ومبادئ وروح الثورة بلا منطق ولا أخلاق ولا مبادئ ولا روح الحرب والاقتتال. بدل أن يدين الجميع، تحوّل الثورة إلى حرب، انطلاقاً من أحلام الثورة، يهلل الجميع لانتصارات مؤقتة يحققها فصيل جهادي متطرف في الحرب على فصيل آخر بين الفينة والأخرى.
خمس سنوات من التفجع والموت والمأساة، يدفع ثمنها أحرار سوريا المواطنون المدنيون السلميون العزل، ويقبض هذا الثمن مجرمون من كل حدب وصوب ومن كل فريق وفصيل وطائفة وعقيدة (يا حرام يا سوريا). قلبي يبكيك دماً يا شعب بلدي الجريح. لا يستطيع الإنسان الذي يحرص على الحفاظ على إنسانيته وأخلاقه وولائه لإنسانية وآلام الشعب السوري وأحلامه، إلا أن يلتزم الصمت المطبق وينزوي بعيداً عن مستنقع القذارة والعنف والنهلستية العميق الذي يغرق فيه الجميع. أفهم مثل خيار كهذا يتخذه السوريون اليوم، فأنا بت من أتباعه شخصياً.