بعد عشرة أشهر من استيلاء “داعش” على المنطقة، استعاد الجيش السوري مدينة تدمر الأثرية من التنظيم. وسارع النظام السوري وحليفته روسيا الى الإشادة بهذا الإنجاز، باعتبار تدمر معلماً مهماً في سورية، كما حرصت وسائل الإعلام السورية الرسمية على أن تستخدم هذا الانتصار كرمز لقوة النظام.
لكن جوهر المسألة أن نظام بشار الأسد قد ضحّى بتدمر لتحقيق مكاسب سياسية.
كان تنظيم “داعش” قد استولى على تدمر في شهر أيار (مايو) 2015. وجاء ذلك بعد شهرين فقط من سيطرة “جبهة النصرة”، أحد المنافسين الرئيسيين لـ “داعش”، على إدلب تحت مظلة “جيش الفتح”. “جبهة النصرة” وتنظيم “داعش” منافسان لدودان منذ البداية، ويعمل “داعش” على محاولة إضعاف “جبهة النصرة” منذ إعلان وجوده، حيث يعمل التنظيم بطريقة منهجية لمحاولة نزع الشرعية عن الجبهة والاستيلاء على مصادر دخلها. وبالتالي، جاءت سيطرة “جبهة النصرة” على إدلب في مثابة تحدّ لـ “داعش” سعى التنظيم إلى التغلّب عليه من خلال اكتساب أراض جديدة في سورية ليكمل تحقيق شعاره، وهو أن “الدولة الإسلامية باقية وتتمدد”.
لكن خلال تلك الفترة، أي منذ سنة، كان تنظيم “داعش” بدأ يجد صعوبة في الاستمرار في توسيع نطاق المنطقة الجغرافية الخاضعة لسيطرته في سورية، وكان هناك فقط عدد قليل من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، التي كان من شأن السيطرة عليها أن تقدّم فوائد استراتيجية للتنظيم. تدمر لم تكن واحدة منها، فهي منطقة نحو الجنوب لا الشمال، لذا لا توفر طرق الإمداد للتنظيم الذي تكمن أراضيه الرئيسية في الشمال الشرقي لسورية، ولا يتمكّن من السيطرة على مناطق لا توجد فيها بيئة حاضنة له (كالمناطق العلوية مثلاً). بعبارة أخرى، لا تعتبر تدمر أبداً ذات أهمية استراتيجية بالنسبة الى “داعش”. لكن لتدمر أهمية استراتيجية للنظام السوري، إذ إن موقعها يفتح احتمال شن هجمات في المستقبل من الجنوب نحو الشمال الشرقي في حال قرر النظام استرجاع الرقة.
في الوقت الذي كانت “جبهة النصرة” تحقق مكاسب في إدلب، كانت الجبهة الجنوبية التابعة لـ “الجيش السوري الحر” توسّع نفوذها في درعا في الجنوب. هذا التوسع يعني أن الجبهة الجنوبية كانت في تلك الفترة تقترب من دمشق وتحقق نجاحات عسكرية ضد الجيش السوري و “حزب الله” في درعا.
جاء تنظيم “داعش” هنا كأداة ملائمة للنظام. فهم النظام رغبة التنظيم في التوسع، فأعطى الجيش السوري “داعش” الفرصة للتوسع جنوباً من خلال عدم الوقوف في طريق مقاتليه. اغتنم “داعش” فرصة هذا الانفتاح واتجه نحو تدمر، حيث لم يواجه مقاومة تذكر من الجيش السوري. وقد علّق بعض قادة “الجيش السوري الحر”، أن قوافل “داعش” انتقلت أكثر من 80 كلم على الطريق الرئيسي باتجاه تدمر من دون تعرّضها لهجوم من النظام أو حلفائه.
جاء الاستيلاء على تدمر ليبشّر بوجود جديد لـ “الدولة الإسلامية” في الجنوب غيّر ديناميات المعركة في المنطقة، فبدلاً من مواجهة النظام، وجدت الجبهة الجنوبية نفسها في الغالب تتعرض للهجوم من “داعش”، ما أعطى الجيش السوري وحلفاءه فرصة للتنفس.
أصبح سقوط تدمر في يد “داعش” قصة رعب مناسبة للنظام. فبعد شهرين من تقدّمه، وفوق التنكيل بسكان المنطقة، بدأ “داعش” بتفجير المواقع الأثرية في المدينة القديمة، ما أثار غضباً دولياً سارع النظام الى ترداده وحتى المبالغة فيه. لكن من أول الأشياء التي فعلها “داعش” في تدمر، كان الهدم الكلي لسجنها. وكان سجن تدمر معروفاً جيداً بأنه بؤرة للممارسات اللاإنسانية ضد السجناء من المعارضة. فجاء محوه من الوجود ليساعد النظام على التخلّص من الأدلة على تورّطه بالتعذيب في هذا السجن.
تدمر أصبحت أيضاً مصدراً مناسباً للدخل. فنهب مواقعها الأثرية غذّى تجارة الآثار غير المشروعة التي يعتمدها “داعش”، والتي يتوسط فيها أمراء الحرب من مختلف الأطياف السياسية، بمن في ذلك شركاء النظام.
وظلت المدينة تحت سيطرة “داعش” حتى جاء الوقت المناسب لاسترجاعها. توقيت استعادة تدمر مهم، إذ إنه يأتي في الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية المتوقعة في سورية، والتي سيسعى النظام الى استخدامها لإثبات أن لديه ولاءً واسع النطاق في البلد. فالانتخابات المقرر إجراؤها في 13 من هذا الشهر، هي بالنسبة الى النظام دليل على أنه لا يزال يسيطر على الدولة السورية، لذا فإن استعادة تدمر تدعم سردية النظام. استرجاع السيطرة على تدمر يتزامن أيضاً مع المحادثات المتوازية مع النظام والمعارضة التي تجريها الأمم المتحدة في جنيف. ويأتي النصر العسكري ليعزز مكانة النظام في المحادثات ومساعدته على المناورة ليصنّف نفسه كشريك موثوق للمجتمع الدولي في الحرب العالمية ضد الإرهاب.
وعلى رغم الخسائر التي أعلن عنها بين صفوف مقاتلي “داعش”، فإن استعادة تدمر لم تكن صعبة على الجيش السوري المعزز من سلاح الجو الروسي. تقدّر التقارير أن 400 من عناصر “داعش” قتلوا في العملية. لكن “داعش” طالما ضحى بعدد مماثل من مقاتليه، كما حصل خلال هجومه على قاعدة الطبقة الجوية في آب (أغسطس) 2014. إن مقتل أربعمئة عنصر ليس خسارة كبيرة للتنظيم. ولو كانت تدمر ذات أهمية أكبر بالنسبة الى “داعش”، لما كان تخلّى عنها بسرعة.
حكاية تدمر تأتي مع “نهاية سعيدة”: لم تحرر المدينة من “داعش” فقط، لكن اتضح أيضاً أن الأضرار التي لحقت بمواقعها الأثرية أقل حدة بكثير مما كان يتصوّر. مع هذا الخبر المناسب بسروره، سارع الأسد ليتباهى بأن تحرير تدمر “هو دليل على نجاعة الاستراتيجية المعتمدة من الجيش السوري وحلفائه في الحرب على الإرهاب،” في حين أكد الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن الأسد يعترف بأن “هذه النجاحات كاستعادة تدمر كانت تكون مستحيلة من دون دعم روسيا”.
في نهاية المطاف، فإن تدمر، شعباً وتاريخاً، تمت التضحية بها على مذبح نظام الأسد وحليفه الروسي.
الحياة