كحالة الجري المستمرة في فيلم فورست جامب، يندفع أبو خالد الرجل الستيني مسرعاً تجاه الموج البشري الطائف حول مبنى القنصلية السورية، في منطقة تقسيم، لتأدية فروض الطاعة المفروضة على السوريين الراغبين باستخراج أو تجديد جوزات سفرهم.
يقف الرجل منهكاً، منتظراً دوره، وحاملاً مظلته ذات الطابع الكلاسيكي، متأملاً ذلك النسر الذهبي الشاحب الملتصق برداء جواز سفره الأزرق الأنيق.
لم يخطر ببال ذي الشعر الأبيض الملتف أنه سيضطر يوماً، بعد أن هرب بمن تبقى من عائلته إلى تركيا، إلى الوقوف مستجدياً أبسط حقوقه من مؤسسة تمثل نظاماً لطالما هتف هو وأبناؤه لإسقاطه.
يتوسط أبو خالد رتلاً يتجمهر كل صباح أملاً بتجاوز باب القنصلية، علّه يحظى بدور يمكّنه لاحقاً- إن حالفه الحظ- من الحصول على جواز سفر جديد.
غايته قد تبدو بعيون غير السوريين بسيطة، لكن بالتأكيد ليس الحال كذلك بالنسبة له ولأقرانه، ممن يرون في الأمر قيداً يستعصي على الكسر وزنزانة تبقيهم وتحشرهم في عالم الأسر والقهر.
ورغم أن القوانين الدولية والمحلية وصفت جواز السفر بأنه أحد الحقوق المدنية للمواطنين، إلا أن جهابذة المشرّعين لم يخطر ببالهم أن هذا الحق قد يتحول إلى لعنة، أو حجر عثرة ضخمة سيحملها اللاجئ السوري على ظهره أينما حل وارتحل.
ميّز أبو خالد، حال اقترابه من المكان، كلماتٍ طالما ألِفها من قبيل “وقّف عالدور يا مزوء” و “بعد من قدّام الباب يا فهمان”، لكن هذه المرة بنكهة تركية، فحراس القنصلية “security” أصيبوا على ما يبدو بعدوى الفوقية والاستعلاء من موظفي القنصلية في الداخل.
يتقدم العجوز لحل خلاف بين مراجعين جدد والـ “security”، علّ الأمور تسير بأسرع من الوتيرة المعتادة، إذ لم ييأس الرجل من القدوم يومياً إلى مبنى القنصلية طيلة أيام الأسبوع، ربما ليفهم كيف تسير الأمور هناك، أو ربما ليشعر بالقليل من التفاؤل لا أكثر، أما أمل الحصول على الجواز بالطرق الشرعية فتبخر منذ أول يوم حلَّ فيه أمام هذا المبنى المشؤوم.
يشاهد أبو خالد بحسرة مقطع فيديو يوضح كيف يستخرج الياباني جواز سفره في أقل من دقيقتين، ودون المرور على أي موظف، ثم يتمتم زافراً “أي متل عندنا بفرد شكل”.
صحيح أن جواز السفر السوري لا يسمن ولا يغني من جوع، إلا أن غيابه عن شخص يقيم خارج بلاده سيجعل من هذا الشخص حتماً سجيناً لا لاجئاً، فتركيا ودول الخليج مثلاً، لا تقبل منح السوري حق “الإقامة” على أراضيها ما لم يكن يحمل جواز سفر ساري المفعول.
ورغم أن هذا الجواز نجح باقتحام موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأغلى جواز سفر في العالم، بعد القرار الأخير لحكومة النظام، إلا أنه لا يزال الأضعف على مستوى العالم وفق تصنيف “هانليبارتنر”.
يتنهد الاستشاري القانوني حسام الأحمد قائلاً: “تحوّل الجواز السوري إلى كابوس يلاحق اللاجئين أينما رحلوا، وقد نجح النظام بدهائه بالتحكم بنا وابتزازنا حتى ونحن خارج البلد”.
ما هي إلا أسابيع حتى شوهد أبو خالد خارجاً من باب القنصلية حاملاً بيده بطاقة تؤكد حصوله على موعد يمكّنه من استكمال إجراءات الحصول على جواز سفره الجديد، لكن بعد أن دفع لسمسار، أو ما يحب السوريون أن يلقبوه بـ “المفتاح”، وليترك أبو خالد مكانه لقرابة ثلاثة ملايين لاجئ سوري آخرين أحصتهم مديرية الهجرة التركية ليؤدوا فروض الطاعة، ويغادر الستيني مكتئباً، متألماً، منقطع النفس، متسائلاً: إلى متى سيستمر “سيزيف” السوري بدفع الثمن؟
صدى الشام